قال الصديق: كثيرا ما تنتقد ظاهرة ابتعاد المثقفين عن السياسة، حتى كأنهم ينأون بأنفسهم عن الخوض في هذا المعترك، تجنبا للجانب السياسي من المعركة؛ لأن البقاء على ضفة الفكر، أهون من الدخول في المواجهة. ولكنك تتناسى أن المثقف العربي قد أريد له أن يظل في الظل يتلهى بشؤون الثقافة بعيدا عن معركة السياسة.. قلت للصديق: دعنا نبسط الصورة: في المعادلة العادية السائدة في الدول الديمقراطية المتقدمة، يأتي المفكرون (صانعو الاستراتيجيات والرؤى الناظمة للحياة العامة) في مقدمة القوى المؤثرة في الحياة السياسية، فيكون المفكر بمثابة الحصان الذي يقود العربة، ولكن الأمر في البلاد العربية مقلوب في أغلب الأحيان: فالحصان موقعه وراء العربة وليس أمامها، وربما لا يكون له موقع أصلا. وهذا ما يفسر التخبط واللامنطق في مجمل السياسات العربية. وهذا ما يبرر انسلاخ القسم الأعظم من المثقفين عن الجسد السياسي، فتكشف الوجه الحقيقي للسياسي وبان ضعفه في التعاطي مع المشكلات والمعضلات السياسية والمجتمعية، لأن السياسة أصبحت من دون كشافات تنثير الطريق وتمنطق السياسة. قال الصديق: مازلت أعتقد أن وظيفة السياسي ووظيفة المثقف تختلفان من حيث الدور، فلكل منهما مكان ودور ولا يمكن ان نطلب من المثقف أن يكون جزءا من السلطة أساسا. قلت للصديق: ليس بالضرورة أن يكون السياسي مثقفاً، ولكن بالضرورة يجب أن يكون المثقف سياسياً (وليس حزبيا بالضرورة). والمثقف المقصود هنا هو من يعي الواقع ككل ويتجاوزه بوعيه في الوقت نفسه، ويساعد على التشخيص والتحليل واقتراح الحلول ورسم السياسات. فانظر مثلا إلى أدبيات جوزف ناي، فرانسيس فوكوياما، بريجنسكي، وهم من الفكرين الأمريكان، فهي التي ترسم ملامح السياسات الامريكة، ويسير السياسيون على خطاها.. بل وصنّف كتابات كلّ من جوزف ناي وفرانسيس فوكاياما، وزبيغينيو بريجنسيكي ضمن الكتب القومية الأمريكية الأكثر تأثيرا في السياسات الأمريكية، مهما تغيرت الادرات الأمريكية، وهذه الادبيات هي الأكثر تأثيرا في أوساط المجتمع السياسيّ الأمريكيّ، ولذلك تشكّل القاعدة السياسية الصلبة والمؤثرة في الأحزات والجماعات والاتجاهات والاعلام والجامعات وغيرها من الؤسسات الفاعلة. وبذلك تحولت هذه النخب الفكرية وحتى الأكاديمية إلى الأكثر تأثيرا في صنع القرار السياسي.. قال الصديق: قد يكون هذا صحيحا ولكن المقارنة في رأيي لا تجوز لأسباب عديدة، فحال العربي مسكين لعدة أسباب، لأن أغلب مثقفينا ليسوا من حجم مفكري تلك الدول المتقدمة أولا، وسياسيونا – في غالبيتهم العظمى – لا يعبأون بالمفكرين والمثقفين، ونادرا ما نجد السياسي الذي يبوأ المفكر مكانة بارزة أو يقدمه. وتلك معضلة من معضلات حياتنا العربية. فالاختلاف في تحديد المسؤوليات والاعتراف بالأخطاء والهزائم الفادحة التي ارتكبها السياسي بحق المجتمع، قد دفع العديد من المثقفين لإعلان البراءة من تلك السياسات والكوارث التي حلت بالمجتمعات العربية، ورفض المثقف تحمل قسط من مسؤولية عن هذه الكوارث، لأنه لم يكن شريكا في ما حدث. فهذا الترحيل القسري (للكوارث التي حلت بالمجتمع) الذي يمارسه المثقف ضد السياسي ويحمله المسؤولية الكاملة، فيه شيء من (التنصل) من المسؤولية. فالمثقف (طبعا ليس كل المثقفين) قد شارك السياسي بشكل أو بآخر – بالرغم من أنه لم يكن صاحب قرار في كل المراحل – في الوضع الذي آلت إليه الأمور سواء بالمساندة أو بالاتباعية أو بالتأييد أو بالصمت والانسحاب. ولذلك يتحمل جانبا من المسؤولية، في عدم اتخاذه الموقف اللازم من تلك السياسات الخاطئة التي انتهت بتلك الكوارث في الوقت المناسب، بل ويتحمل قسطا من المسؤولية نتيجة لانسحابه من الجسد السياسي بغية إحراج السياسي وإسقاط ورقة التوت عنه. وهذا الموقف لم يضعف السياسي فحسب بل أضعف (إلى حد ما) المثقف العربي أيضا. فلا السياسي قادر على الاعتراف بأخطائه، ولا المثقف قادر الخروج من منطقة الأمان إلى ساحة المعارك، إلا فيما ندر من الحالات.. قلت للصديق: إذا كانت القطيعة بين السلطات العربية والمثقفين العرب في تاريخنا العربي الحديث والمعاصر هي القاعدة، فإنه بالإمكان ردم الفجوة بينهما على أساس جديد، إذا ما رغبنا في تطوير حياتنا السياسية، من ناحيتين: - الأولى: ضرورة التخلص من عقدة أن المثقف إذا ما عمل مع السلطة يتحول إلى تابع لها، حيث لا يجب أن يثني هذا التخوف – الذي قد يكون صحيحا في بعض جوانبه – المثقف عن المحاولة؛ خاصة إذا ما كانت السلطة مستنيرة وإصلاحية، من أجل المصلحة العامة وتطوير المجتمع، حيث قد تأتي مثل هذه الفرصة التاريخية مثل تلك التي حدثت في البحرين عند انطلاق المشروع الإصلاحي الذي فتح آفاقا رحبة أمام السياسة والثقافة والإعلام، فرأينا مفكرا كبيرا مثل الدكتور محمد جابر الانصاري مسهما في تعزيز هذه التجربة السياسية الفذة، وكان من بين مثقفي البحرين الذين أسهموا في بناء هذه العلاقة الصحية بين القيادة والمثقفين، والتي من أهم أسبابها استعداد القائد للاستماع إلى مختلف الآراء الهادفة لمصحلة البلاد، وحرصه على توفير الحرية لها والتعامل معها بتقدير واحترام. - الثانية: ضرورة أن يعمل المثقف بكل جد على الخروج من العزلة والهامشية والتوقف عن الغرق في متاهات الألاعيب والتهويمات اللغوية، فينخرط في الفعل السياسي (ليس بالمعنى الحزبي بالضرورة)، مع الاحتفاظ بموقعه الفكري والأكاديمي ككاتب وكمثقف مستقل. وعلى السياسي أن يتفهم ذلك أيضا؛ لأن في مصلحته أن يكون المثقف مستقلا في التشخيص والتحليل واقتراح الحلول وإبداء الرأي، وألا يكون تابعا لأنه في ذلك الوقت لن يكون مفيدا في شيء. همس في غيابك الألوان غربة، والأغنية توقفت أوتارها المجنونة. لن أغني بعد اليوم، فلا الأحلام والألوان والضوء والظلال، والنرجس في طريق الصدى، ولهفتي المؤجلة رحلة لا تنتهي.
مشاركة :