في جدلية العلاقة بين «المثقف» و«السياسي»..

  • 1/16/2022
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

كتابات عديدة ملأت رفوف المكتبات العربية لفهم إشكاليات العلاقة بين «المثقف» و«السياسي» في العالم العربي، وهي علاقة كما يصفها المفكر السوري برهان غليون، «علاقة متوترة بسبب الهوة التاريخية والمعرفية بين عالم الفكر الذي تحكمه الرؤية المعيارية القيمية، وعالم الواقع الذي تحكمه لغة المصلحة والانتهازية». واحتلت هذه الإشكالية حيزًا كبيرًا ضمن جملة القضايا التي عالجها د. محمد جابر الانصاري في سياق مشروعه الفكري باحثًا عن وصفة منطقية وعملية لطبيعة تلك العلاقة المتأزمة تاريخيًا، مطالبًا بتجسير الفجوة بين الطرفين إذا أردنا تجديدًا للحياة السياسية وتقاربًا مطلوبًا بشدة بين طرفي معادلة تطوير الواقع، فالمثقف، بحسب قناعات الانصاري، يجني على نفسه إذا انغلق على فكره، حيث لا مناص من تجمد الدماء في عروق التجديد الحضاري وتسيّد التردد واللا حسم في الفعل السياسي، ليبقى المتضرر الأول من كل ذلك «المصلحة الوطنية» التي هي استحقاق لا يمكن تأجيله، أو المساومة حوله. ويتناول الأنصاري في تشخيصه لهذا المشكل المزمن، زاوية علاقة المثقف بالكتابة الصحفية وأن بانعزاله عن هذا الميدان تكبر الفجوة بين أفكار المثقف من أجل الإصلاح والتغيير، من ناحية، وبين الناس بكل تكتلاتهم المدنية، من ناحية أخرى، وهو إشكال لن يُحلّ إلا إذا نفض المفكر عن قلمه غبار عزلته وتخلص من وهمه الزائف «بأن المفكرين وحدهم يغيرون التاريخ.. فالتاريخ لا يتغير إلا عندما تتحول الأفكار إلى قوى مجتمعية وسياسية فاعلة، وما عدا ذلك فحرث في البحر». ورجوعًا لمسألة تغليب المصلحة الوطنية وتطوير المجتمع وضرورة أن يتسابق «المثقف» و«السياسي» من أجل تحقيقها في إطار العمل الديمقراطي الذي يوفر المستويات الصحية من الحرية المسئولة للكلمة وصولًا للحكم الرشيد والمشاركة العادلة والتنمية الشاملة لرخاء مستدام، رجوعًا لهذا الموضوع وقعت بين يدي مادة حوار صحفي – جرى في قديم الأزمان – بين شخصيتين، لن أشير إلى هويتهما، وسأكتفي بتسميتهما بـ«المثقف» و«السياسي»، وأسجل هنا حديثهم بتصرف – يراعي أمانة النقل - لتقديم نموذج مبسط حول إمكانية إيجاد أرضية مشتركة للتفاعل يتصارح من خلالها الطرفين لتقريب وجهات النظر وإن وجد الاختلاف فهو حول الوطن لا ضده. وهذا نص الحوار «بتصرف»: السياسي: نحن عاتبون عليكم، لأن مجلتكم لا تتحدث إلا عن متاعبنا ولا تشيد بإنجازاتنا إلا قليلاً! المثقف /‏ الصحفي: الصحافة واقعة في عالمنا بين مطرقة الرأي العام الذي يطالب بالحقيقة، وسندان الأنظمة التي لا ترتاح إلا لكل ما هو برّاق وأخاذ، وأنت تعلم أن الحقيقة لها وجهان دائمًا، ولكنك كرجل رسمي تريد ما يدعم موقفك، أما المفكر الحر والصحافي فله دور آخر ونظرة أخرى.. فهل ردي كفيل برفع العتب! لم يجب السياسي، بل بادر بالحديث عما تقوم به قوى التخريب في المنطقة وخصوصًا ممن ينتمون لليسار «الانتهازي»، واشتبك كلاهما في نقاش مأزوم ساد تلك الفترة من الحياة السياسية، ليدافع كل طرف عن وجهة نظره في طبيعة المواقف السياسية المشحونة بين يسار «انتهازي» ويمين «متشدد» وضياع شباب تلك الفترة بين هذا وذاك.  وهنا عاد المثقف ليسأل السياسي قائلاً: هذه الظواهر السياسية المتطرفة ليست مهمة في حد ذاتها، المهم هو صلاح التربة الاجتماعية التي تفرّخ وتنمو فيها مثل هذه الظواهر، فلنوجه اهتمامنا للتربة إذن، فهل تعتقد من موقعكم كمختص في مجال التنمية بأنه توجد لديكم خطة واضحة لإقامة العدالة الاجتماعية التي تحلم بها شعوب العالم؟   السياسي: الدستور  والديمقراطية.. ألا يكفون في نظرك؟ المثقف: هذا هو الجانب السياسي من المسألة، أي انسان عاقل يجب أن يرحب بوجود دستور في سبيل حماية الديمقراطية.. ولكنك تعلم بأن كل نظام سياسي لا بد له من الاستناد إلى جذور وخلفية اجتماعية – اقتصادية وأنا أتحدث تحديدًا عن ذلك. السياسي: الدستور ينص على الضمانات الاجتماعية ويتم حاليًا ترجمتها لتشريعات، ونقابات العمال لها من الحرية والأريحية لرفع مطالب العمال وشكاوَاهم للسلطة المختصة، ونحن نعمل في المدارس والدوائر على توفير تكافؤ الفرص..  فقال له المثقف: ماذا عن الضرائب؟ لماذا تترددون في فرض الضريبة على الشركات والتجار والأجانب وأصحاب الدخل المرتفع عمومًا، لتحسين الخدمات الاجتماعية؟ تقولون إن النظام لديكم هو نظام حر ولكنكم تتجاهلون تطبيق ذلك؟ فرد السياسي: ولكننا في منطقة لا تعترف بنظام اسمه الضرائب، هل تعلم بأن جيراننا يعملون على إلغاء رسومهم الجمركية، فقل لي كيف نستطيع نحن فرض الضرائب؟ المثقف: جيرانكم خفضوا الرسوم الجمركية من أجل تخفيض أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية مراعاة لأصحاب المداخيل المنخفضة، وهذا صعب تطبيقه لدينا، وهنا تأتي الضريبة التي يجب أن يتحملها القادر عليها لردم الهوة بين الأغنياء والفقراء في مجتمعنا. فلماذا نعفي أصحاب المداخيل العالية من مثل هذه الضريبة؟ أجاب السياسي: نحن في مرحلة تأسيس للبنية التحتية وتنويع الاقتصاد ونطمح بأن تتحول الشركات الوطنية إلى مصدر لعائدات الدولة بعد سنوات قليلة، ونفكر في وضع نظام لجباية رسوم معينة على الشركات لقاء استخدامها للمرافق العامة في البلاد. أما الضريبة فسيأتي دورها فيما بعد، نبدأ بالشركات ثم ننتهي بالأفراد، ولا تنسى بأن الدستور أعطى الدولة حق سن الضرائب وجبايتها، وأنا ممن دافعوا عن مبدأ الضريبة الذي نص عليه الدستور. فرد المثقف: إذن هذا يؤكد رأيي في ضرورة فرض الضرائب على رؤوس الأموال والمداخيل المرتفعة، فالمتابع للمشهد الوطني يرى بأن هناك تفاوت بين أقلية غنية وأغلبية فقيرة، وهذه ظاهرة خطيرة تهدد سير الديمقراطية في الصميم.. لأنه لا ديمقراطية بلا عدالة اجتماعية و... فقاطعه السياسي قائلاً: أنا لا أوافق على هذا التحليل، فأكبر طبقة في مجتمعنا هي الطبقة المتوسطة وهي طبقة ذات مستوى حسن نسبيًا، وإذا كانت تشكو فمرد ذلك أنها تستهلك كثيرًا وهذا دليل عافية، أما عمالنا فنصفهم من الأجانب، بينما الطبقة المتوسطة وطنية مئة في المئة وهي عمودنا الفقري. وهنا سأل المثقف: ولكن هناك ظاهرة غريبة في الحياة الاقتصادية لدينا، أريد أن أستفسر عنها، وهي مدى النفوذ الذي تتمتع به الشركات الأجنبية عندنا. واسترسل المثقف بتقديم العديد من الأمثلة على ذلك بخلاصة مفادها بأن الشركات الأجنبية تحتكر كل شيء، وختم تعليقه بسؤال، إذا كانت التنمية تتجه هذا الاتجاه، فأين نحن من تحقيق العدالة الاجتماعية والاستقلال الاقتصادي الذي لا معنى للاستقلال السياسي بدونه؟ فجاء رد السياسي هادئًا وبرحابة صدر بالغة فقال: ليس صحيحًا أن الشركات الأجنبية ما زالت مسيطرة، وعندك حق في بعض الجوانب التي تتطلب إعادة النظر وتستدعي إشراف أكبر للدولة عليها، ولا تنسى بأن دخول تلك الشركات جاء في فترة سابقة ونحن نعمل على تصحيح أوضاعها.  وهنا عاد المثقف ليسأل سؤالاً أخيرًا.. فقال السياسي: هات وخلصنا..    المثقف: رأيك في الصراع الدولي في المنطقة؟ رد السياسي بسرعة بديهة: يؤثر على تكاثر الروبيان بسبب كثرة مجيء سفنهم فنحن لدينا شركة للتعليب وهذه السفن مزعجة للروبيان.. فاقتنع المثقف.. وقال: ليس في جعبتي أي سؤال!  وتحكي ذاكرة الزمن بأن العلاقة بين شخصيات هذا الحوار ظلت قائمة وجمعتهما مشاريع عديدة كان الشاهد فيها تغليب كل طرف للمصلحة العامة، وما عدا ذلك نتركه لمخيلة القارئ لاستخلاص ما يلزم من عبر ورسائل لبناء مواقف متجددة ولإيجاد أرضيات مشتركة تتفاعل وتتحاور وتتصارح في ميدانها كل قوى المجتمع بعيدًا عن الأنا الفردية والبطولات الشخصية.. لتسكت شهرزاد عن الكلام المباح..   *- عضو مؤسس- دارة الأنصاري للثقافة والفكر

مشاركة :