في منتصف الثمانينات من القرن الماضي، أطلت.. أو دخلت إلى الساحة الثقافية العربية امرأة في مقتبل العمر.. لا تنقصها الثقافة والحضور، ولا يُعْوِزُها العقل والذكاء، ولا تفتقد أدبيات المحاورة والنقاش.. ثم هي لا تفتقر إلى مزيد من الحسن والجمال.. كانت في برنامجها التلفازي تطرح القضايا كافتها، وتحاور الأطياف الثقافية بتوجهاتها كلها.. وأبدعت تلك السيدة، وكانت في كل حلقة تقدم الدليل على رصانتها وعلى سعة أفقها وثقافتها.. إلى درجة أنها مسحت برنامج (الكلمة تدق ساعة) من ذاكرة المتلقي.. بعد أن كان -أي برنامج الكلمة تدق ساعة - أهم برنامج ثقافي حواري في زمنه على خارطة البرامج الثقافية في التلفزة العربية. استمرت مقدمة البرامج الثقافية في بث برناجها أسبوعياً، وأجمع مثقفو الساحة العربية على أنها خلقت لهذا البرنامج وأنه لا يصلح ولا ينجح إلا بها. ومثلما تجري سنة الله في هذه الحياة.. توقف البرنامج، ولم نعد نشاهد مقدمته المثقفة الحسناء، ومثل كل شيء في هذه الدنيا نُسِيَتْ ونُسِيَ البرنامج!! وبعد عقود، وقبل أقل من شهر.. فوجئ الجمهور العربي بظهور تلك السيدة في إحدى القنوات المسيسة ضيفة في لقاء خاص بها.. وإلى هنا ليس هناك أي إشكالية.. فمن حقها.. بل من الواجب أن تستضاف، وأن تعرف أخبارها، ولماذا توقف برنامجها، وأن تسرد فقرات من سيرتها وتجربتها.. لا غبار على ذلك كله.. غير أن الشيء المفاجئ بحق الذي زلزل ما مضى من تاريخها ومجدها الذي بنته بجدها واجتهادها، وشوه صورتها كما ينبغي لكيف العدو أنها ظهرت في المشهد وهي تحمل حذاء كريهاً بغيضاً لا يحتمل من ذلك النوع الذي يسمى عندنا هنا (زربولا) وفي بعض البلدان العربية (بسطاراً).. كانت تضمه بيديها كلتيهما بشغف عجيب إلى صدرها وكأنها خائفة ومشفقة من أن يختطفه أحد.. وإلى هنا كذلك يمكن أن تطاق مثل هذه الكوارث، غير أن الكارثة التي لا تحتمل هي أنها أخذت تقبل الحذاء وتشتم رائحته.. ولكي تكتمل جوانب الكارثة، أخذت تتحدث بحميمية عن أحد الأحزاب العربية البائدة، وعن أن هذا الحذاء الذي تحتضنه رمز للعنصر العسكري في إحدى الدول التي ما زالت تؤمن بالأمة العربية الواحدة في ظل هذا التشرذم الذي لم يسبق له مثيل، وأخذت بعد ذلك تسب وتشتم بقية الأقطار العربية!! طبعاً.. إزاء ذلك انهار كل ما يتعلق بهذه السيدة في غمضة عين، ولم يعد له حضور، أو قل: لم يعد له لزوم. لقد تحولت رمزية هذه المرأة إلى رماد تماماً، وسقط كل ما عرف عن شخصيتها.. لقد سقطت الثقافة التي تعد موقفاً حضرياً مميزاً، وسقط الإبداع الذي هو ناتج تلقائي للثقافة والفكر، وسقط البرنامج في طرحه وحوارياته الذي هو خلاصة القبول بمختلف الرؤى لا التشدد والتعصب لسخافات السياسات المنحرفة والمشبوهة، أما مسألة سقوط الحسن والجمال فقد تكفلت بها العقود الراكضة خلف التشوه والضمور. من السهل جداً أن يبدأ الإنسان أي إنسان في تأسيس بناء تاريخي عريق، ومن السهل كذلك إذا امتلك آلياته أن يستمر في التكوين والإضافة.. غير أن من الصعب العسير أن يحتفظ خلال ذلك وبعد ذلك بقيمة ما وصل إليه وبقيمته، وسبب ذلك قريب جداً لا يحتاج إلى تفكير أو تفسير وهو: الإفراط في الطغيان والغرور من جانب، والتفريط في القيم والأخلاق والثقافة والمواقف من جانب آخر. إننا بالحزن والأسى كله.. ننعى وجود تلك المرأة وتاريخها الثقافي وبرنامجها التلفازي إلى الساحة الثقافية والإعلامية العربية، فقد تحولت إلى مسخ مخجل مسطح تافه.. ليس بسبب أحد، وليس بفعل أحد، وإنما بيدها وبحضورها وبصوتها وكلماتها وبمبادرتها وإصرارها وتوقيعها!! وتلك قمة الفقدان والفناء والانقراض. وما أبشع أن يكون الإنسان ذا أفق رحب وفكر جليل وقبول باحتمالية العالم ثم ودون مقدمات يتحول إلى مخلوق مجرد من كل شيء إلا من حقد دفين، وفكر ظلامي، وقاموس رديء، ونسف كل احتمالات الجمال في هذا الوجود.
مشاركة :