أعتذر سلفاً.. إزاء ما يمكن تسميته (الافتتان بمنجزات الحرية والديموقراطية)، وفي الوقت ذاته أؤمن بألا أحد يمكن أن يتجاهل أو يكابر إزاء ما تحققه الشعوب لأوطانها.. وتركيا برغم ما خلفه العسكر من صنوف القمع والتبكيت، وبرغم السلبيات السياسية خلال العقود الماضية، استطاعت في السنوات الأخيرة أن تكون أيقونة التجارب السياسية في منطقة الشرق الأوسط، وبخاصة في عهد الرئيس (أردوغان). ومن أجل أن تتجلى قسمات المشهد كما ينبغي، نتساءل: هل كان أحدٌ - سواء من الأكراد وسواهم - يتصور في عهد زعامة (كنعان إيفرين) أو (تورغوت أوزال) أن يهب مثل هذه النسائم أو أن يتحقق مثل هذا الانفراج؟. والفوز الساحق الذي حققه حزب الشعوب الكردي في البرلمان التركي وضع حزب العدالة والتنمية في وضع لا يحسد عليه بسبب أنه -أي حزب العدالة والتنمية- لم يعد في إمكانه أن يقوم بتشكيل حكومة أقلية ولا ائتلافية، وسيتجه فوراً إلى الانتخابات المبكرة. أما كيف قفز حزب الشعوب الديموقراطي الكردي من مقعداً في البرلمان السابق إلى ما يتجاوز مقعداً في البرلمان الحالي فتلك واحدة من المعجزات السياسية والتحولات الديموقراطية الحقيقية، ومن هنا لا استغراب أن يتحول إقليم ديار بكر إلى (كرنفال) نخبوي وشعبي احتفالاً وابتهاجاً بهذا الفوز الاستثنائي. وجميعنا يدرك معاناة الشعب الكردي خلال القرن الماضي، وكيف تحول إلى شعب مطارد بكل صنوف الإقصاء والتعذيب والقتل والرفض، لكنه في الوقت ذاته كان شعباً صامداً صابراً مثابراً خلف حقه التاريخي والوجودي والأثني. ولأن لكل إنجاز ثمناً ومقابلاً ومترتبات وتضحيات وضحايا فإن الدولة التركية ومعها الشعب التركي ستواجه عديداً من المآزق والتحديات على الصُّعُدِ كافتها، وفي مقدمتها: - الاضطرابات والفوضى على المستويين الحزبي والمدني، وتلك محصلة حتمية، وبخاصة في مثل هذه المفاجآت السياسية. - اختلال الوضع الاقتصادي، وفي أوليّات ذلك قيمة العملة المحلية التي لا شك في أنها ستبور إزاء العملات الأجنبية. - تفاقم الوضع الأمني، وتحديداً ما يتعلق من ذلك بما تقوم به التنظيمات غير المشروعة في المنطقة. الشيء الثابت أن هذه المنغصات لن تقتل الفرح المتألق في القلوب والعيون لدى الشعبين التركي والكردي، التركي سيبتهج بهذه النفحة الديموقراطية، والكردي بهذا الاكتساح الكبير لمقاعد البرلمان وفيها الحزب الحاكم العدالة والتنمية. تركيا بهذا الوضوح والنقاء والشفافية السياسية تشعل أكثر قناديل التجربة السياسية جمالاً وإشراقاً وهو قنديل الديموقراطية والصدق والمساواة في الانتخابات المشروعة في البلاد. الرئيس رجب طيب أردوغان، برغم ما قيل عنه في مختلف التحليلات. وبرغم ما خيم عليه من الحزن والأسى، وبرغم كارثة سقوط حزبه في البرلمان بهذا الشكل، سيظل رمزاً تركيا، وسيسجل له التاريخ السياسي في بلاده هذا الإنجاز، وأن في عهده أطلت الديموقراطية بوجهها الفاتن بشكل لم يسبق له مثيل.
مشاركة :