اجتماع كوالالمبور بين غياب الحكمة وحضور الإيديولوجيا​

  • 12/25/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

دهشة كبيرة واستهجان أكبر قابلت به غالبية الدول الإسلامية الاجتماع الذي استضافته مؤخرا العاصمة الماليزية كوالالمبور، وجمع قادة إيران وتركيا وماليزيا وقطر لمناقشة قضايا هي من صميم اختصاصات منظمة التعاون الإسلامي، في محاولة لإضعاف دور المنظمة التي ظلت طيلة العقود الماضية تضطلع بدور المدافع عن قضايا العالم الإسلامي، والممثل الشرعي لتلك الدول في كافة المحافل الدولية، واستطاعت -بحمد الله- تحقيق العديد من النجاحات والمكتسبات، ونالت سمعة طيبة وسط المنظمات الدولية المشابهة، لا سيما الأمم المتحدة التي تتعامل معها كأكبر منظمة من حيث عدد الدول الأعضاء البالغ 57 دولة، ارتضت أن تمثلها طواعية واختيارا.​ بدءا، وبعيدا عن افتراض حسن النية أو سوئها، فإن الدول الأربع المعنية التي عقدت ذلك الاجتماع خالفت بصورة واضحة ميثاق منظمة التعاون التي هي جزء أصيل منها، وتتمتع بكامل حقوق العضوية فيها، ولها مطلق الحرية -كغيرها من الدول- في الدعوة إلى عقد اجتماع طارئ لبحث أي قضية مستجدة ترى أنها لا تحتمل التأجيل، وهو ما ينفي وجود أي عذر منطقي للدعوة إلى ذلك الاجتماع، وبتلك الصورة الانتقائية التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك وجود أجندة خاصة، لا علاقة لها بمصالح الأمة، ولا الرغبة في تحقيق نهضة علمية وطفرة صناعية، إلى غير ذلك من التعبيرات الفضفاضة التي وردت عن ذلك الاجتماع.​ وإذا افترضنا -جدلا- وجود دافع يستوجب عقد اجتماع طارئ، أو رغبة في تحديث آليات العمل أو تطوير الوسائل، فإن ميثاق المنظمة يتسم بالمرونة الكافية التي تتيح لتلك الدول أو لأي منها عرض وجهات نظرها، ومناقشة ما لديها من مقترحات أو آراء، وإخضاعها في النهاية لرأي الغالبية التي تقرر تمريرها وإجازتها أو رفضها. ​ ومع التسليم بطبيعة الحال بوجود رغبة لدى الدول الأعضاء في منظمة التعاون كافة، في تحقيق مزيد من المكاسب للأمة الإسلامية، وتحسين وضعها وسط دول العالم قاطبة، والدفاع عن حقوقها وسط عالم لم يعد يعترف إلا بالأقوياء، إلا أن نظرة منصفة سريعة توضح بجلاء أن المنظمة حققت خلال الفترة الماضية من عمرها كثيرا من النجاحات، وتمكنت من الدفاع عن حقوق أعضائها، حيث أصبحت تمثل الصوت الجماعي للعالم الإسلامي، وتعبر عن قيم الإسلام الكبرى الداعية للسلام بين مختلف شعوب العالم، بل وأصبحت ثاني أكبر منظمة دولية بعد الأمم المتحدة، من حيث عدد الأعضاء وتعداد من تمثلهم، حيث يفوقون مليارا ونصف المليار مسلم.​ ووسط الاضطراب الذي شهده النظام العالمي خلال العقود الماضية، وعلى الرغم من الظروف المعقدة التي عاشتها معظم الدول الإسلامية فقد تمكنت المنظمة من إيجاد قنوات مرنة من التشاور والتعاون مع الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الحكومية الدولية، لحماية المصالح الحيوية للمسلمين، وتقديم الصورة الحقيقية عن الدين الإسلامي في وجه المفاهيم المغلوطة والتصورات الخاطئة، وواجهت محاولات التمييز ضد المسلمين بجميع صورها، وقدمت كثيرا من الدعم للقضية الفلسطينية التي تعدّ قضية المسلمين المحورية، ورفضت كافة المخططات التي هدفت إلى إضاعة الحق العربي والإسلامي، وتصدت لممارسات الاحتلال الإسرائيلي المعادية للفلسطينيين. كذلك أسهمت المنظمة في جمع كلمة الدول الإسلامية وتنسيق جهودها لمكافحة آفة الإرهاب التي اُبتلي بها العالم خلال الفترة الماضية، وتمثل ذلك في تبادل الخبرات، وتمرير المعلومات بما أدى إلى تحقيق العديد من النجاحات. كما شهدت الفترة الماضية من عمر المنظمة العديد من الجهود لتعزيز التعاون في كافة المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها.​ وبعيدا عن منطق النجاحات والإخفاقات، فإن الدعوة إلى اجتماعات تعقدها وتستضيفها دول بعينها لتتحدث باسم الدول الإسلامية كلها هي تصرف مرفوض وغير صحيح، ومحاولة إلى شرذمة وتشتيت جهود الأمة، وإبطاء العمل الإسلامي المشترك، وإضعاف وحدة الكلمة، فمثل هذه الاجتماعات تظل تفتقد الشرعية الحقيقية، لأنها لم تحصل على تفويض من بقية الدول لتتحدث باسمها أو تناقش شؤونها أو تدعي تمثيلها، كما أنها تشجع دولا أخرى لتقوم بالشيء ذاته، وتعقد اجتماعات مماثلة، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه للفوضى وعدم التنسيق.​ هناك أسئلة كثيرة تشرئب بأعناقها بحثا عن إجابات مقنعة عن معايير الدعوة التي اتبعت لعقد ذلك الاجتماع، فنظرة بسيطة للدول الأربع توضح بجلاء عدم وجود قواسم مشتركة قائمة على أسس منطقية أو أي معايير موضوعية، اللهم إلا وجود الرغبة لدى أنقرة وطهران -من جهة- في ممارسة الكيد السياسي مع المملكة ومعظم الدول الإسلامية، أو بين أنقرة وكوالالمبور والدوحة -من جهة أخرى- في إعلاء شأن المزايدات الحزبية وتحقيق مكاسب إيديولوجية على حساب بقية الدول الإسلامية، وكلتا الغايتين تتعارض مع المصالح العليا للأمة، والتي كان الأولى إعلاءها وتقديمها على ما سواها، وعدم إخضاعها لمكاسب زائلة أو أهداف خاصة.​ المتابع للتداعيات التي أعقبت القمة يلحظ بوضوح أن ماليزيا سقطت في الفخ الذي نصب لها، وهو ما تجلى في تصريحات رئيس وزرائها مهاتير محمد، التي نقلتها قناة سي إن إن الأميركية، ونفى فيها أن تكون بلاده ترمي من وراء عقد الاجتماع إلى الدعوة لإنشاء تكتل جديد يتولى دور منظمة التعاون، وأنه أوضح ذلك في مكالمة مع العاهل السعودي، الملك سلمان بن عبدالعزيز، وقال وفق ما نقلته وكالة أنباء بلاده حرفيا «من الأفضل أن تستمر السعودية في لعب دورها، فماليزيا صغيرة للغاية لتتكفل بذلك الدور».​ خلاصة القول إن الدول الإسلامية تمر بمنعطف تاريخي وفترة فارقة من تاريخها، فالأخطار تتناوشها من كل ناحية والتحديات تحدق بها، ومن الحكمة أن يسعى قادتها وراء تعزيز عوامل وحدتهم وتقوية شوكتهم، بدلا من بحث البعض عن استعادة أمجاد إمبراطوريات غاربة، أو خلافة طوتها غياهب النسيان.​

مشاركة :