أن يأتي مئات إلى أمسية شعرية في مدينة عربية، فهو دليل لافت، وأن يكون ذلك الحضور للإصغاء إلى شاعر لم تعرف عنه منبرية عالية، ولا موسيقى الحماسة ولا خطاب التحريض السياسي، فهو دليل من حق الشاعر البحريني قاسم حداد أن يرى فيه حصيلة «موضوعية» لدأب طويل على النص الشعري بوصفه ممارسة دائمة للمعرفة ومراساً متواصلاً على الحرية. أمسية صاحب «طرفة بن الوردة» في العاصمة الأردنية، نظمها «منتدى شومان الثقافي» بالتعاون مع «وتر للثقافة والإبداع»، لم تجذب إليها متذوقي الشعر من الأجيال التي قرأت تحولات عصرها الفكرية والجمالية عبر نصوص ستينات القرن الماضي وسبعيناته، وحسب، بل من الأجيال الجديدة التي لم تعرف من «لحظتها العربية» غير الانكسارات والمسارات الدموية المرعبة، فكان هناك شبان يصغون بإمعان إلى شاعر ما انفك على مسار يؤاخي فيه الألم والخسران، ويمارس فيه «نقد الأمل». المختلف الحقيقي في أمسية الشاعر حداد، هو نصه الطويل «الاحتمالات» الذي جاء في 12 مقطعاً، وعبره يوجز صاحب «قــبر قاسم»، المهمة التي ما انفكت أعمق اختـبار جدي للكتابة الرفيعة في عصرنا المحتدم: التعبير الجمالي عن المسار الإنساني الأقرب إلى «جحيم لا هوادة فيه»، فيما يبدو مسلماً به أن «عالم الأدب يستدعي قدراً من الاطمئنان والسكينة، أو على الأقل الثقة بالنفس». في النص الذي لم ينشر بعد، مواجهات من كل نوع تتمحور حول فكرة الإنسان المحاصر ولكنه المفتون بأفكار التجدد: «رؤيا تضع لها الريش في جنح مخذول»، أو تلك الهواجس التي تعنيها حياتنا المتعبة، «بيوت مريضة بالحب والبحر/ يلجأ إليها أصحاب الخشب التائه في اليم». ومع كل نص عند حداد يبدو وكأنه «التمرين الأخير على موت في حياة لا تحتمل»، فانه على المنوال ذاته يصوغ في نصه الأحدث، مرثية مدهشة لـ»شعوب شاخ فيها نجمها الكوني»، بل هو أقرب إلى تدوين «فهرس الدم» لحياة تبحث يائسة عن أفق ما يغلقه جبل شاهق من الركام. وأحسن الشاعر قاسم حداد صنعاً، حين اختار نصوصاً تخفف الأثر الذي خلفته مقاطع «الاحتمالات» لجهة قسوتها في الكشف عن حيرة الإنسان الذي فينا وغربته المطلقة، فقرأ من نص «قلّ هو الحب»: «قل هو الحب/ ولا تصغي لغير القلب/ لا تأخذك الغفلة/ لا ينتابك الخوف على ماء الكلام/ قل لهم في برهةٍ/ تنساب وصاياك/ وينهال سديم الخلق في نار الخيام/ قل لهم، فيما ينامون على أحلامهم/ سترى في نرجس الصحراء/ في ترنيمة العود وغيم الشعر سرداً وانهدام/ وما ينهار ينهار، فما بعد العرار/ غير مجهول الصحارى وتفاصيل الفرار/ غير تاج الرمل مخلوعاً على أقدامنا/ والذي يبقى لنا تقرؤه عين الغبار/ والذي لا ينتهي، لا ينتهي/ مثل سر الموت/ والباقي لنا محض انتحار»، ليعيد الشعر إلى أغنيته الأولى، الأصفى والأرق على المشاعر، حتى وإن عاد عبر «طرفة بن الوردة»، إلى مكابدة الحقيقة وأوجاعها ونذيرها: «مدائنٌ تسعى برمتها لصَلبكَ قبل صوت الطير /أيقظْ سرجك الملكيّ/ هذا الغيم بحرٌ من مجاز المكر في باب الغموض/ أيقظْ حصانك وانهرْ المعنى/ قصيدتك الطويلة أقصرُ الخطوات نحو الموت/ لا تغفلْ/ لديهم ما يشفُّ عن القرائن/ وامتحانُك في كتاب الطيش يكفي لاستثارتهم/ طريقك تنتهي/ فلتبتكر سفراً». الاحتفاء الأردني بصاحب «يمشي مخفــوراً بالوعول»، تواصل من « ليالى الشــعر... مؤسسة عبد الحميد شومان» إلى «مكتبة الجامعة الأردنية» في لقاء جمـــعه إلى أساتـــذة وطلبة، وأوضح فيه الشـــاعــــر قاسم حداد مفهومه الشخصي عن الكتابة بوصفها أفقاً عاطفـــياً «ينهل من الموروث العربي القديم ويعيد تشــكيله جمالياً ومعرفياً»، من دون أن ينـــسى تأكيــــد أن «الشعر هو نوع من الغـــموض الــــذي يبغي صقل الروح، وهو أيضـــاً عامل اكتشاف للأشياء الآتية من تفـــاصـــيل الحياة اليومية التي تبدو في ظاهرها ضئيلة وصغيرة إلا أنها عميقة الإشارات والدلالات». ومع أن قاسم حداد المشتبك بقوة على نقيض أقرانه مع قضية الشعر والاتصال والتلقي، عبر عمله المتجدد والعميق في آن في موقع «جهة الشعر» الرائد في كونه إطلالة عربية تبدو الأبرز في مجالها، إلا انه لا يتردد في القول عن كونه شاعراً لا يحسن «شرح» قصيدته أو «تفسيرها»، مع انه يحدد ضرورة «بناء وعي جمالي جديد ينطوي على الصدمة وإنارة الغموض وإيجاد نوع من الحوار والجدل حول النص الذي لا قيمة حقيقة له دون الحرية التي ترفعه إلى مقام الشعر والإبداع في تجلياته الإنسانية والجمالية».
مشاركة :