ربما كان فشل بدر شاكر السيّاب في الحب سبباً من أسباب تأجج شاعريته. ذلك أنه عرف منذ شبابه الأول في جيكور، قريته في جنوب العراق، مروراً بمرحلة الدراسة الجامعية في دار المعلمين العالية ببغداد، وصولاً إلى أيامه الأخيرة، عدداً من النساء أحبهن ولم يبادلنه الحب على النحو المأمول. كان يعلق آمالاً عريضة على كل منهن، ويندفع أيما اندفاع في سبيله إلى الاستحواذ عليهن، ولكنهن كن يفلتن من بين يديه كما تفلت السمكة من بين يدي الصياد وتفرّ هاربة إلى أعماق اليّم. فالخيبات العاطفية كانت سمة بارزة في حياته، ولكنها كانت نعمة من النعم تدفقت على شعره فوهبت هذا الشعر بعضاً من أجمل القصائد التي كتبها بدر طيلة عمره القصير نسبياً. ولاشك أن بدر كان مسؤولاً عن كؤوس الخيبة التي تعيها من المرأة. ذلك أنه كان قبيحاً دميماً كما كان فقيراً. وكلها صفات كانت تحول بلاشك دون اهتمام المرأة به. ولعل البيت القديم الذي يقول فيه صاحبه: إذا شاب شعر المرء أو قل ماله فليس له في ودّهن نصيب! ينطبق في جزء منه على السيّاب. ذلك انه اشتهر بفقره الشديد، والفقر تنفر منه المرأة وتطمح إلى رجل غني ترتبط به. وإذا كان السيّاب لم يعرف الشيب لنأه توفي وهو في الثلاثينيات من عمره، فإنه اشتهر بدمامة واضحة في قسمات وجهه، وهزال في بنيته وشكله، وكذلك بفقره الشديد الذي عاناه على مدار حياته وكل ذلك كان من أسباب نفور حواء منه، ومن أسباب الهجاء الذي وجهه إلى أكثر «حبيباته» في القصيدة العاطفية الأخيرة التي كتبها قبل أن يدخل «المستشفى الأميري» الذي توفي فيه في الكويت بتاريخ //. قصيدته العاطفية الأخيرة هذه، وعنوانها «أحبّيني»، وقد كتبها في باريس في //، قبل عودته إلى العراق، فالكويت، ليموت فيها، تعتبر وثيقة هامة في تاريخه العاطفي. ففيها يعدّد «الحبيبات» اللواتي أحبهن، ويذكر أبرز ما بقي في مخيلته عنهن، ليخاطب امرأة يريدها أن تحبه «لأن جميع من أحببت قبلك ما أحبوني»! في المرحلة التي سبقت طلبه للعلم في بغداد، تفتح قلبه للحب فأحبّ أكثر من واحدة. كان طالباً في ثانوية البصرة عندما نشأت بينه وبين فتاة من قريته جيكور علاقة حب بريء. يشير السياب إلى هذه الفتاة باسم «الراعية» لأنها كانت ترعى قطيع أهلها حيث كان يخلو بها. لكنه دعاها باسمها في قصيدة له، فإذا باسمها هو هالة. ولكن هالة «تبيعه» بثمن بخس أو غير بخس. فقد أخبرته يوماً أن أهلها عقدوا خلال غيبته قرانها على رجل من القرية. ويذكرها بدر في قصيدته «أحبيني» بسطرين اثنين: ... آه! فتلك باعتني بمأفون لأجل المال، ثم صحا فطلّقها وخلاّها! ويتعرف بدر بعد ذلك إلى فتاة تدعى لبيبة خلال حياته في دار المعلمين العالية. أحبها بدر حباً عميقاً ونظم فيها عدداً من القصائد ضمنها ديوانه الأول «أزهار ذابلة». كانت الفتاة تكبر بدر بسبع سنوات وكانت طبقتها الاجتماعية غير طبقته. لذلك كان مقضياً على حبه هذا بالفشل. وفي «أحبيني» يذكرها على النحو التالي: وتلك لأنها في العمر أكبر أم لأن الحسن أغراها بأني غير كفء، خلّفتني كلما شرب الندى ورق وفتح برعم مثلتها وشممت ريّاها؟ وأمس رأيتها في موقف للباص تنتظر فباعدت الخطى ونأيت عنها، لا أريد القرب منها هذه الشمطاء! لها الويلات.. ثم عرفتها: أحسبت أن الحسن ينتصر على زمن تحطم سور بابل منه، والعنقاء رماد منه لا يذكيه بعث فهو يستعرُ وتبيعه فتاة بغدادية بعد ذلك. ففي أحد الأيام بينما كان بدر يسير في أحد أروقة دار المعلمين، ربتت على كتفه يد بضة. التفت فإذا وجه صبوح تزينه غمازتان تبسمان له وتدعوانه للتغزل بصاحبتهما. لم يصدق السياب ما يرى ويسمع، إذ كيف لمثل هذه الحسناء المدللة أن تهتم به أو بغزله؟ ويستجيب لطلبها ويكثر من تغزله بها. لكن الفتاة لا تلبث أن تترك الكلية وتتزوج من أحد الأثرياء، فيعكف السياب على جراحه يداويها: وتلك كأن في غمازتيها يفتح السحر عيون الفل واللبلاب، عافتني إلى قصر وسيارة إلى زوج تغيّر منه حال، فهو في الحارة فقير يقرأ الصحف القديمة عند باب الدار في استحياء يحدثها عن الأمس الذي ولى فيأكل قلبها الضجر! وفي دار المعلمين العالية يتعرف السياب يوماً إلى فتاة أخرى من أسرة ثرية سرعان ما تبيعه، وفيها يقول: وتلك وزوجها عبدا مظاهر ليلها سهر وخمر أو قمار ثم يوصد صبحها الإغفاء عن النهر المكركر للشراع يرف تحت الشمس والأنداء ولا يمضي وقت طويل حتى يتعرف في دار المعلمين أيضاً على فتاة سمراء اسمها لميعة عباس عمارة ينظم فيها قصائد جميلة نشرها في ديوانه الثاني «أساطير». كانت لميعة شاعرة وقد فازت بالجائزة الأولى في احدى الحفلات الأدبية التي كانت تحييها دار المعلمين، بينما فاز بدر بالجائزة الثانية. وفي العطلة الجامعية الصيفية دعاها بدر لزيارته في جيكور، فلبت الدعوة. ولكن الدروب تفرقت بالحبيبين إذ اختار بدر النضال الحزبي (كان في تلك الفترة شيوعياً) وما تبعه من تشرد وسجن، في حين تزوجت لميعة من مهندس. وفي قصيدة «أحبيني» يذكر السيّاب حبه هذا بخمسة عشر سطراً، ويروي فيها ذكريات زيارة لميعة إلى جيكور ونزهتهما معاً في قارب: وتلك شاعرتي التي كانت في الدنيا وما فيها شربت الشعر من أحداقها ونعست في أفياء تنشرها قصائدها عليّ: فكل ماضيها وكل شبابها كان انتظاراً لي على شط يهوّم فوقه القمر وتنعس في حماه الطير رش نعاسها المطر فنبهها فطارت تملأ الآفاق بالأصداء ناعسة تؤج النور مرتعشاً قوائمها، وتخفق في خوافيها ظلال الليل. أين أصيلنا الصيفي في جيكور؟ وسار بنا يوسوس زورق في مائه البلور وأقرأ وهي تصغي والربى والنخل والأعناب تحلم في دواليها تفرقت الدروب بنا نسير لغير ما رجعة وغيّبها ظلام السجن تؤنس ليلها شمعة فتذكرني وتبكيني هنالك، غير أني لست أبكيها.. لسبب ما لم يذكر السياب «مادلين» اليهودية في عداد من أحبّهن ولم يحببنه. كان السياب تعرف إبان انتسابه إلى الحزب الشيوعي العراقي إلى مناضلة في الحزب من أصول يهودية عراقية تدعى مادلين. لم تدم علاقتهما طويلاً إذ انتزعها منه بهاء الدين نوري الأمين العام للحزب الذي طلب منها أن تكون سكرتيرة له. وكان من الطبيعي لعضو بسيط في الحزب هو بدر شاكر السياب أن يولي الإدبار! وآخر من أحبهن بدر زوجته إقبال طه العبدالجليل وفي هذه القصيدة يذكرها بثلاثة أبيات هي: وآخرهن؟ آه زوجتي، قدري. أكان الداء ليقعدني كأني ميت سكران لولاها! ولكن من هي «مشروع» الحبيبة السابعة التي يوجه السياب الكلام إليها ويدعوها إلى أن تحبه؟ إنها أديبة بلجيكية تعرف إليها في بيروت سنة واهتمت بترجمة بعض قصائده إلى الفرنسية. اسمها لوك نوران وقد التقى بها في إدارة مجلة شعر، كما التقى بها في باريس لاحقاً ونظم فيها عدة قصائد منها قصيدة بعنوان: «كيف لم أحببك» ومنها: كيف ضيعتك في زحمة أيامي الطويلة لم أحل الثوب عن (...) في ليلة صيف مقمرة؟ يا عبير التوت من طوفيهما.. مرغت وجهي في خميلة من شذا العذراء في (...)، ضيعتك آه يا جميلة! إنه ذنبي الذي لن أغفره ظل بدر إلى آخر أيامه في المستشفى الأميري في الكويت يذكر لوك نوران، وفي قصيدته «أحبيني» الموجهة أصلاً إليها يناشدها أن تحبه: وأنتِ لعله الإشفاق! .... أحبيني لأني كل من أحببت قبلك ما أحبّوني!
مشاركة :