...جاسم الخرافي ولبنان حكاية لن تموت، فـ «الروح» فيها تماماً كـ «طائر الفينيق» لا تعرف لا رماداً ولا رمادية، بيضاء بلونِ الحب والخير والعطاء والأخوة، تلك الرباعية التي سكنت جاسم الخرافي قلْباً وقالباً في لبنانيّته الجارفة، وكانت دائماً لسان حال لبنان المسكون بالكويت توأمه الآخر، وبعرفان الجميل لرجالاتها الذين جعلوا من حب لبنان شأناً كويتياً يرقى الى مصاف المصالح العليا والقيم العلية. لم يفوّت جاسم الخرافي، الكويتي اولاً ثم السياسي والبرلماني، ايّ مناسبة او فرصة او لحظة مواتية، إلا وأشهر حرصه على لبنان وأهله واستقراره وراحة البال فيه...لم يجفّ حبر صوته بعد وهو يردّد في حفل الاستقبال بذكرى استقلال لبنان الذي أقيم في الكويت «اهل الكويت لن ينسوا موقف لبنان البطولي في فترة الغزو الغاشم (...) ندعو لربّ العالمين ان يجمع اللبنانيين لما فيه خير وطنهم. وكلي أمل بأن الحكماء في لبنان سيكون لهم دور في معالجة مشكلاته». كأنها وصية الأخ الخائف من الواقع المخيف، وهو الذي كان يحفظ مناسبات لبنان ومشكلاته عن ظهر قلب ويذكّر اللبنانيين الذين التقاهم اخيراً في فندق جميرا وفي قاعة سلوى الصباح بأنه «اذا كانت هناك سعادة في لبنان ففي الكويت سعادة مماثلة»، وغالباً ما كان يصحّ رهانه على «حكماء لبنان» الذين بارك لهم يوم تشكيل الحكومة الحالية بعد فراغ 11 شهراً «نريد ان نذهب الى لبنان في ظلّ استقرارٍ نتمناه». اول من امس ازداد الليل سواداً في بيروت التي صدمها خبر وفاة جاسم الخرافي...صديقه الدائم رئيس مجلس النواب نبيه بري لن يكتب برقية عزاء فحسب، ربما زاد الى نثره قصيدة رثاء لواحد من الذين جمعتهما طويلاً الأيام الحُلوة والمُرة في العمل البرلماني، وهكذا حال رئيس الحكومة «الرئاسية» تمام سلام الذي تربطه بالكويت ورجالاتها علاقة ودّ «أباً عن جد»، اضافة الى غالبية الزعامات اللبنانية التي ترى في خسارة الكويت برحيل الخرافي خسارة للبنان. لن يبرق الرئيس اللبناني معزياً بوفاة جاسم الخرافي لأن لا رئيس جمهورية في لبنان، فآخر الرؤساء غادر القصر الجمهوري قبل عام من دون ان يدخله احد...المرحوم جاسم الخرافي كان جاء الى بيروت في العام 2008 للمشاركة في «تنصيب» الرئيس ميشال سليمان وأعرب يومها عن سعادته بالانفراج السياسي في لبنان، معبّراً عن تمنياته للشعب اللبناني بمزيد من الاستقرار السياسي، ومشيراً الى «ان لبنان دولة عربية شقيقة وان أمنها واستقرارها ضروريان للأمن القومي العربي وان ما جرى في لبنان انما هو سحابة صيف سرعان ما تزول، والشعب اللبناني قادر على تجاوز كل الأزمات لانه شعب متحضّر، وان انقاذ لبنان هدف كل الأفرقاء والجميع يعملون من اجل استقرار لبنان الذي تربطه بدولة الكويت علاقات تاريخية طويلة». كان الخرافي سنَداً للبنان ومسانِداً له، في مشوار إعماره مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، وفي مقاومة الاحتلال الاسرائيلي ومحو آثار اعتداءاته مع الرئيس نبيه بري، وفي صوغ التوافقات الوطنية لتعزيز الجيش مع الرئيس ميشال سليمان...وهذا الفائض من «اللبنانية» في مسيرة الخرافي مكّنه من لعب دور بارز في احتواء «سحابة الصيف» التي عكّرت العلاقات بين لبنان والكويت بفعل طغيان وهج «الوصاية السورية» على السياسة الخارجية اللبنانية العام 2003. والجميع يذكرون في بيروت اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في فبراير 2003 حين أدار وزير الخارجية اللبنانية آنذاك محمود حمود المؤتمر بـ «ايحاءات» سورية، ما أغضب الكويت ودول مجلس التعاون الخليجي، وتسبب الأمر بمشكلة ديبلوماسية بين بيروت والكويت عمل على احتوائها رئيس الحكومة آنذاك رفيق الحريري عبر مشاوراتٍ مع الشيخ صباح الاحمد الصباح، ورئيس مجلس الأمة جاسم الخرافي مع نظيره اللبناني نبيه بري. يومها كتب الخرافي للرئيس بري قائلاً: «ان الظروف العصيبة والدقيقة التي تمرّ بها الأمة العربية في الوقت الراهن خصوصاً في منطقة الخليج تحتم علينا جميعاً التكاتف والتعاون بدلاً من التشاحن واختلاف الآراء. ولقد عهدنا لبنان الشقيق، الدولة والقيادة، في طليعة الدول العربية الساعية دائماً الى وحدة الصف والكلمة العربية تقوية وتأصيلاً للعمل العربي المشترك. وفي هذا السياق فإننا ما زلنا نحفظ للبنان الشقيق بالتقدير وقوفه الى جانب الحق الكويتي وإدانته منذ اللحظات الاولى للغزو العراقي الغاشم على دولة الكويت في الثاني من اغسطس 1990. ومن هذا المنطلق فإننا نرى في لبنان الشقيق الوجه الآخر للكويت ولقضايا الكويت العادلة ولمواقف الكويت المبدئية والثابتة إزاء كل القضايا المطروحة على الساحة العربية والاقليمية والدولية. ومن هذه الرؤية الاخوية للبنان الشقيق، رأيتُ الكتابة لدولتكم حول ما جرى في الاجتماع الوزاري الأخير بالقاهرة». واضاف الخرافي: «لقد تابَعْنا بانزعاجٍ بالغ نتائج اجتماعات وزراء خارجية الدول العربية الذي عقد أخيراً في القاهرة وما سادت جلساته من مناقشات طويلة وخلافات متأججة حول إصدار بيان عن العراق. ويؤسفنا كثيراً ان يخرج عن الأصول والأعراف المتبعة في مثل هذه الحالات. واذ نعرب عن بالغ انزعاجنا وأسفنا لأسلوب الرئاسة اللبنانية في إدارة اجتماع المجلس الوزاري، فإننا ننظر اليه باعتباره نهجاً يجب ألا يتكرر مستقبلاً. لقد أدى هذا الاسلوب الى تجاهل الآراء الاخرى وتحجيمها، فضلاً عن انه أدى الى انفراد مجموعة من الدول بالسيطرة على مجريات الأمور داخل الاجتماع وإقرارها لما تشاء من توجهات خلافاً لرأي مجموعة اخرى. ان هذا النهج غير المنظم والضعيف في إدارة اجتماعاتٍ على هذا المستوى من قبل الرئاسة، ادى الى صدور بيان لا يلبي ولا يعكس مطالب وآراء الدول الاخرى التي لها وجهات نظر مختلفة وهذا ما جعل دولة الكويت تتحفظ عليه». وختم الخرافي رسالته قائلاً: «ان التحفظ الكويتي لم يكن على موضوع البيان بقدر ما كان على الاجراءات التي رافقت إصداره، حيث اننا نرى انه ما كان يجب ان يصدر عن هذا الاجتماع اي بيان اذا كان سيعقبه مؤتمر قمة طارئ للملوك والرؤساء العرب، حيث ان مهمة وزراء الخارجية في هذه الحالة تنحصر في التحضير فقط لهذا المؤتمر. وما حدث يُعد خروجاً على الاصول المتعارف عليها، لانه ليس من اختصاص وزراء الخارجية اصدار بيانات سابقة لانعقاد القمة. وما نأمله من لبنان الشقيق هو الالتزام التام مستقبلاً بقواعد الاجراءات التي تنظمها لوائح الجامعة العربية، واتاحة الفرص المتكافئة امام الجميع من دون استثناءات او تحيزات لأطراف على حساب اطراف اخرى، لأن ما ننشده جميعاً هو التفاهم والتعاون، وان تكون المصلحة العربية العليا هي اساس العمل العربي المشترك، سعياً لوحدة العرب وتضامنهم في ظل ما يهدد الامة العربية من أخطار كبيرة محدقة بها». ولم يمض الكثير من الوقت حتى عادت المياه الصافية الى مجاريها، فالثابت في العلاقة الكويتية - اللبنانية أكثر رسوخاً...ومن تلك الثوابت نموذجٌ اسمه جاسم الخرافي.
مشاركة :