توظيف النزعتين القومية والدينية في عالمنا العربي يتجه نحو طريقة مقلقة ومتضادة، تعكسها الأزمات العربية في دول مثل العراق ولبنان وليبيا، ويمكن لهذه النزعات أن تجد طرقها إلى التصادم المؤدي إلى خطأ المشهد في مؤشرات التحول السياسي عربيًا.. المشهد العربي القائم ليس على ما يرام، والكل يتحدث عن مرحلة صعبة وتعقيدات دقيقة في المشهد السياسي القائم، وهذا ما يستوجب خلق الأسئلة حول هذا المشهد المؤلم، الوضع القائم لا يحتمل جلد الذات؛ ولكنه يتطلب تحليلاً دقيقًا وسيناريوهات محتملة لهذه المرحلة الصعبة، والعالم العربي مقسوم بطبيعته إلى عدة أقسام: دول غنية ومستقرة، ودول غنية ولكن قلقة، ودول فقيرة وتصارع من أجل البقاء.. وما يثير الاستفسار هنا أن هذه الدول لم تعد قادرة - على أقل تقدير - على ترتيب الأولويات في الأزمات والتحولات الكبرى، والسؤال المعقد هنا: أين تكمن المشكلة؟ لا أحد يستطيع أن يضع قائمة بالمشكلات العربية بحسب الأهمية، ولكن هناك نزعتان في العالم العربي ثبت تاريخيًا أنهما غير مهددتين بالزوال، هما النزعة القومية والنزعة الدينية، ولكنهما تفقدان كثيرًا من تأثيرهما في حال الأزمات، وتصبحان نزعات هشة أو متواضعة في حال الهزيمة، وهذا ما يجعل الدين والقومية يتحولان إلى شعارات؛ إما أن يقاتل بعضها بعضًا، وإما أن يعزي بعضها بعضًا بالهزيمة. خلال العقدين الماضيين كان هناك انسحاب ملحوظ في المشهد العربي على المستويين السياسي والشعبي، هذا الانسحاب تمثل في مؤشرات تآكل الوعي الشعبي تجاه القضايا العربية الكبرى والمشتركة التي ظلت تحرك الوعي العربي فترة طويلة، عطفًا على أن النزعة القومية العربية برمتها بُنيت على الطموحات الوحدوية تاريخيًا، هذا إضافة إلى تآكل ملحوظ في تحديد المنطقة الصلبة في المشهد الديني، خاصة بعد دخول الحركات الإسلامية ذات الطابع السياسي في المشهد العربي، واحتكارها إمداد المجتمعات بالمعطيات الدينية؛ أو بمعنى دقيق التغير في المشهد نحو القضايا العربية والتغير في المشهد نحو تحديد المصدر الموثوق للظاهرة الدينية، كلها أزمات فعلية تطرح أسئلة مهمة وحيوية، بل هي محور الأزمات العربية خلال العقود الأربعة الماضية. السؤال المحتمل هنا يقول: هل فعلاً هناك تآكل مقلق يحدث ويهدد نزعتنا القومية والدينية بشكل عام؟ وهل يقف هذا التآكل خلف مشكلاتنا التي نعاني منها، هذا السؤال ليس بحثًا في طموح قومية أو نزعة دينية؛ لأنه يمكن إعادة تشكيل وترويض هاتين النزعتين بعيدًا عن اتجاه يساري مثالي أو يمين راديكالي متطرف، التحولات الاقتصادية التي سادت في أوروبا - على سبيل المثال - ولدت من رحم النزعات القومية والدينية، وكانت تلك الأسس ممهدًا فعليًا للتحولات الاقتصادية الناجحة. السؤال الآخر: هل هذا الارتباك العالمي وعودة الشعبوية وبروز القوميات المنزوية في أطراف أوروبا أو أميركا بشمالها وجنوبها وعودة اليمين المتطرف إلى السياسة الغربية - كلها جزء من مشكلاتنا القائمة في عالمنا العربي؟ أعتقد أن هذا الإسقاط التاريخي ممكن، ولكن الخطورة فيه تكمن في المدى الذي يمكننا من مقاومة آثاره، خاصة في الموقف من الإسلام والمسلمين الذي نشاهده في الغرب كله، والذي هو بصدق يبعث الإرباك فينا حول التصرف المناسب لتقديم حلول جذرية للنزعة الدينية التي سيطرت عليها الحركات الأكثر تطرفًا، ولعل سؤالاً منطقيًا يقول: كيف يمكن أن يتعلم اتباع الدين التسامح في عالمنا ومن يجب أن يعلمه ذلك؟ هذا التمظهر الجديد للحالة العربية القائمة، خاصة في العقود الماضية، مؤلم للمشهدين السياسي والشعبي كلاهما بالدرجة ذاتها. فمثلاً تشكل الأزمة الخليجية في عمقها صورة فعلية لتآكل النزعة الدينية الطبيعية المتفق عليها، فلجوء دولة خليجية إلى تبني المشهد الديني كمهمة سياسية وتقديمه عبر جماعة الإخوان المسلمين ذات الطابع السياسي المتطرف، ينبئ عن تحول خطير في استثمار المشهد السياسي والنزعة الدينية، ومن المؤكد أن تأثيرات هذا الاتجاه ستكلف النزعة الدينية الثمن الأكثر سياسيًا. ثانيًا المشهدان العراقي واللبناني اللذان يقدمان صورة تظاهرية غير مسبوقة في عالمنا العربي، فالثورتان في هذين المشهدين تقدمان نوعًا من الثورات – السياسية الدائرية - التي لا تشبه المثلث، وليست لها قيادة سوى نزعة قومية متشبثة بتحقيق المصير القومي بطريقة دائرية تكمن قوتها في شكلها الهندسي. النزعتان الدينية والقومية في عالمنا العربي تاريخيًا ومهما كانت الظروف ستظلان قادرتين على تقديم قيم يمكن الوثوق بها مهما كان نوع التجربة السياسية، وما يحدث في عالمنا العربي هو مؤشرات صراع غير مطمئن بل مخيف يمكن للجميع أن يدفع ثمنه؛ لأن توظيف النزعتين القومية والدينية في عالمنا العربي يتجه نحو طريقة مقلقة ومتضادة، تعكسها الأزمات العربية في دول مثل العراق ولبنان وليبيا، ويمكن لهذه النزعات أن تجد طرقها إلى التصادم المؤدي إلى خطأ المشهد في مؤشرات التحول السياسي عربيًا.
مشاركة :