آخِر تطورات المشهد الشرقي من شمال سوريا إلى شمال العراق وشرقه، أنّ قوات النظام السوري والميليشيات المقاتلة معها تتقدم في اكتساح شرق حلب. أما في الموصل فإنّ قوات الحشد الشعبي طوقت تلعفر، وأقدم البرلمان العراقي على شرعنتها واعتبرها جزءًا من الجيش. وتُعاني تركيا من متاعب حقيقية على أربع جبهات، اثنتين في سوريا، واثنتين في العراق. وما تزال القوات الكردية تنافسها على التقدم نحو الباب، و«داعش» يفجّر في المناطق التي استولت عليها قوات «درع الفرات» من «داعش». ولذلك فإنّ وزير الخارجية التركي ومدير المخابرات التركية مضيا إلى إيران للتشاور في إمكانيات التعاون أو الحياد على الأقلّ في شمال سوريا! أما حرب اليمن فتحولت إلى حرب كرٍّ وفرّ. والإيرانيون يتحدثون عن إمكان إقامة قواعد بحرية على الجزر أو عائمة في بحر عُمان وأمام باب المندب وفي المحيط الهندي! إنّ هذا الاضطراب في المحيط العربي الشرقي، والتدخلات العسكرية والأمنية فيه من دول الجوار ومن القوى الدولية، تُوازيه في الغرب تحولاتٌ هائلة، أبرزُ مظاهرها صعودُ اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة من خلال فوز دونالد ترامب برئاسة الجمهورية، وفوز فيون في الانتخابات التمهيدية الفرنسية، وقبل ذلك فوز الانفصاليين عن أوروبا في بريطانيا، ووجود سلطتين يمينيتين في هنغاريا وبلغاريا، وسلطة شعبوبية قوية في روسيا الاتحادية. وكل تلك السلطات ترتدي رداء القومية والمصلحة الوطنية، و«مكافحة الإسلام المتطرف» والإرهاب. وبسبب انتهاج سلطة أوباما سياسات الامتناع عن التدخل المباشر منذ العام 2012، فقد ترددت القوى الدولية الأُخرى في التدخل المباشر أيضًا، إلى أن تشجّعت روسيا بإعراض وإغراء الولايات المتحدة فأقدمت على التدخل الكاسح في سوريا. إنّ الجديد في صعود اليمين بأوروبا والولايات المتحدة أنّ الجميع صاروا يريدون التدخل بحجة أنّ الإرهاب المنطلق من سوريا والعراق وصل إلى ديارهم. والشعبة الأُخرى للأمر أنّ هذا اليمين يعتبر السلطات القائمة بسوريا والعراق حقيقة بالوقوف معها باعتبارها القائمة على مكافحة الإرهاب. ثم إنّ هذا اليمين لا يعتبر التدخلات الإيرانية إرهابًا، بينما ينظر شزرًا للتدخلات التركية، ويغضّ النظر أيضًا عن حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل في تركيا وسوريا والعراق، وصارت له قواعد ومناطق فسيحة في سوريا، وأُخرى في سنجار بالعراق، وبمساعدة إيران والولايات المتحدة. إن النافر وسط هذه الأهوال أنه ما عاد هناك حديثٌ جدي عن الحلول والمخارج السياسية؛ إذ الكل يسعى الآن وفي اتجاهٍ واحدٍ إلى «الحلّ النهائي» الذي قوامُهُ القتل والتهجير، والتحجج بـ«داعش» من أجل إحداث تغييرات ديموغرافية، تسمح بإخلاء المدن والقرى بسوريا والعراق، من السنة العرب، ودفعهم إلى الهجرة أو حشرهم في مناطق ريفية وصحراوية نائية، وإحلال آخرين محلَّهم أو ترك مواطنهم خرابًا ويبابًا، بحيث يسمح ذلك بفرض سيطرة المستولين من الشيعة والأكراد وغيرهم، وفرض الاستقرار بهذه الطريقة. التحولات بداخل الإسلام والتي سُمّيت صحوة، سيطرت على الدولة في إيران، لكنها ما استطاعت السيطرة في دولةٍ سنيةٍ كبرى أو وسطى. ولذلك تحولت إلى «تمردات جهادية» صارت لها مع «القاعدة» فـ«داعش» أبعادٌ عالمية. لكنها ما صارت ظاهرةً هائلةً في العراق وسوريا إلاّ بسبب الغزو الأميركي للعراق، والتدخلات الإيرانية في العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ إذ في كل هذه البلدان، فإنّ التمردات هذه اكتسبت أبعادًا وطنيةً وصارت لها جماهير لأنها صارت تقاتل الغُزاة والمتدخلين في تلك البلدان. لقد قاتلها الأميركيون بالعراق منذ العام 2004، ويقاتلها إلى جانب الأميركيين الآن التحالف الدولي والإيرانيون والروس والميليشيات الكثيرة التي استقدمتها سائرُ الأطراف. لقد خرَّب الأميركيون الفلّوجة عامي 2006 و2007، ثم عادت الفلوجة ومعها الرمادي فتمردتا تمردًا مدنيًا عامي 2011 و2012. ثم استولى عليها «داعش» ومعها الموصل عام 2014. وقد كان بوسع الحكومة العراقية (لو كانت عراقيةً بالفعل) أن تحسم الأمر بمجرد خروج الأميركيين عام 2011 بإقامة النظام المدني العادل والإنساني. لكنّ العقلية الميليشياوية ذات الأبعاد الإيرانية أحبطت إمكانية ذلك، كما أحبطها الأميركيون عندما افتتحوا غزوهم للعراق بتدمير أجهزة الدولة العراقية بحجة إعادة بنائها على أُسُسٍ ديمقراطية! وحصل الأمر ذاته في سوريا، عندما أصرَّ النظام الوراثي هناك على إخماد أنفاس الحراك المدني عام 2011، وحوَّل المجتمع والجيش إلى شراذم وميليشيات مسلَّحة، مستعينًا على شعبه بالميليشيات الإيرانية والمتأيرنة فالجيش الروسي. وقد حصل ما هو أفظع وأنكى باليمن عندما انقلبت الميليشيا الحوثية المتأيرنة بمعاونة الرئيس السابق علي عبد الله صالح، على الحلّ السياسي في مرحلته الانتقالية. لقد كان هناك دائمًا إصرارٌ من القوى المحلية النافذة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، وقوى الجوار، والقوى الدولية، على تحويل الشعوب العربية الناهضة من أجل التغيير إلى شراذم وميليشيات. وسيطر على تلك الميليشيات في النهاية إمّا المسلَّحون المتمترسون باسم الإسلام، أو المتأيرنون أو أهل الثورة المضادة من المتمترسين بالسلطة. وصار الأمر الآن كيف يجري التخلُّص من الشعوب ذاتها بالقتل والتهجير بعد أن أمكن توظيف قطاعات شبابية منها في عمليات التدمير الذاتي. منذ العام 2014 صار الأمر واضحًا أنّ هذه الحروب المشنونة على الناس من الداخل والخارج، لا مخرج منها إلاّ بحلول سياسية، تُعيدُ الهدوء بالتدريج، وتحفظ وحدة البلدان. ولأنه باستثناء تونس ما عادت هناك إمكانية للمناعة والتسوية الداخلية؛ فإنّ مجلس الأمن، والقوى الكبرى، هي التي ينبغي أن تقوم بذلك. لكنّ القوى الكبرى انقسمت وتعطّل مجلس الأمن؛ فتصاعدت آمال إيران في السيطرة مع القوى المحلية التابعة لها من طريق القتل والتهجير. وهذا يعني أننا أمام حروبٍ لن تنتهي، لأنه لا يمكن تهجير كل الناس أو قتلهم. نحن الآن أمام جولةٍ ثالثةٍ أو رابعة، يزيد من فظاعتها أنّ الجهات التي كان من المأمول أن تصنع الحلول (أوروبا وأميركا والمؤسسات الدولية) تتجه لتكون هي نفسها ضالعة في إيقاد الاضطراب بحجة مكافحة الإرهاب ومنع امتداده إلى الغرب الآمِن! يحكي الكاتب الألماني آريا ريمارك في روايته: «كل شيء هادئ في الميدان الغربي» قصة الجندي الألماني الذي قُتل برصاصةٍ طائشةٍ بعد نهاية الحرب الأولى، ووقْف إطلاق النار. آريا ريمارك كان متفائلا، إذ أين نحن اليوم وغدًا من وقف إطلاق النار؟! إنّ ما يجري على أرضنا وشعوبنا يكاد يضاهي في فظاعته وآثاره ما جرى في الحرب العالمية الأولى. ويا للعرب!
مشاركة :