فى الأعوام الأخيرة، كثر الحديث عن المحتوى المطلوب توافره فى الفيلم والمسلسل والمسرحية والأغنية، بينما عمليا لا يمكن أن تطلب من مبدع تقديم عمل فنى محمل بقيم البطولة والإيثار والعطاء والبناء والتضحية، النسيج الإبداعى هو الذى يتبنى الأفكار، بدون أن يفرضها أحد.أهم وأكبر تحدٍ يواجهنا هو التعاطى الإيجابى مع الحرية التى تلوح من بعيد كطوق نجاة، الحرية ستتحول إلى سياج فولاذى يحمى الوطن، من أى اختراق خارجى، الفن والأدب والإعلام لا يتنفس إلا فى هواء الحرية، الإبداع قادر على الذود عن وجودنا، لأنه يشكل خطوط الدفاع الأولى للوجدان، فقط امنحوه أكسجين الحياة، البعض لا يفصل بين الحرية والفوضى، رغم أن الحرية والفوضى لا يمكن أن يلتقيا، مع الأسف مع كل توجه رسمى محدود لهامش من الحرية تعلو أصوات تحذير من الفوضى، ونعود مجددا للمربع رقم واحد.أكبر إنجاز تحقق لنا فى العام الذى صار من اليوم يحمل لقبًا ماضيًا، أنه قد صار لدينا ثلاثة نجوم مصريون الدم والجينات والانتماء، ولا يحق لنا بعد ذلك أن نسأل عن جواز السفر، الأهم هو أن الإحساس لا يزال مصريا. ترددت أسماء الثلاثة عالميا، الأول رامى مالك، أول نجم عربى يقتنص «أوسكار» أفضل ممثل عن «الملحمة البوهيمية»، والثانى مينا مسعود الذى لعب بطولة فيلم «علاء الدين» محققا واحدا من أعلى الإيرادات فى السينما العالمية، الثالث رامى يوسف المرشح لـ«جولدن جلوب» عن المسلسل الكوميدى «رامى» الذى يتناول حياة مصرى مسلم يعيش فى أمريكا وكيف يستطيع عقد مواءمة بين جذوره والمجتمع الذى يعيش فيه، أعلم أننا لم نقدم لهم أى شىء، فلقد هاجرت عائلتهم لأمريكا قبل عقود من الزمان، وحققوا كل هذا النجاح فى ظل مناخ صحى يسمح للمواهب بالتألق، ولكن لا بأس من أن نشعر بالفرح والفخر، لأنهم يعلنون للعالم كله أنهم مصريون.هل لدى الدولة حاليا بعد عقود من التجاهل إرادة لمنح الثقافة ما تستحقه، وما ترنو إليه؟ بمجرد تجديد الثقة فى وزيرة الثقافة د. إيناس عبدالدايم عقد الرئيس عبدالفتاح السيسى اجتماعا معها، وكان المحور الأساسى هو عودة الحياة إلى قصور الثقافة، نظرة صائبة جدا من القيادة السياسية، ومطلوبة للتمهيد للبنية التحتية التى تبدأ فعلا بإعادة إحياء تلك النوافذ التى تنير العقول، وتحميها من تغلغل الأفكار الظلامية، هذا المشروع بدأ قويا وفتيا فى الستينيات، ثم عانى مثل مظاهر عديدة فى حياتنا من التراجع، ضربة بداية قوية جدا لمنح الثقافة ما تستحقه.تمنيت أيضا، ليس انحيازا للفن السابع، ولكن حبا فى بلادى، أن تحظى السينما المصرية باهتمام السلطة السياسية، لأن ما حدث فى «2019»، لا يمكن أن يمر بدون أن يثير خجلنا، ثلاثة مهرجانات مصرية طبقا للجدول الزمنى «الجونة» و«الإسكندرية» و«القاهرة»، لا تعثر على فيلم روائى يمثل الدولة المضيف، رسالة قطعا سيئة جدا نحملها للعالم عن حال السينما فى بلادنا، وكأننا بمثابة تاجر يُشهر إفلاسه على الملأ، لو راجعت برامج المهرجانات الكبرى، ستكتشف أن البلد المضيف صاحب الأرض، يقدم للعالم أفلامه فى المسابقات الرسمية، انتظرت أن يتحرك فورا رئيس الوزراء، لعقد اجتماع عاجل مع مبدعى السينما، لأن الحل بتجاوز، قطعا، القدرات المادية لوزارة الثقافة، عودة الدعم بل مضاعفة الرقم الذى ترصده الدولة، قرار فورى لا يحتمل التأجيل، فما الذى من الممكن أن يحرك الدولة، أكثر من أن يعلو صوت أنين السينمائيين من خلال المهرجانات الثلاثة للعالم كله.صحيح أن الأرقام التى حققتها الأفلام فى دور العرض تعتبر بمثابة طفرة، فيلما «الفيل الأزرق 2» و«أولاد رزق2» تخطى كل منهما حاجز رقم 100 مليون، والإيرادات هذا العام فى السينما المصرية، تجاوزت 500 مليون جنيه، بينما الأفلام الأجنبية اقتربت من تحقيق نفس إيرادات السينما المصرية، ومرشحة للزيادة وأن تتخطاها فى 2020، أفلام مثل «الجوكر» كانت تصل عدد النسخ المتداولة إلى نحو 20، من الواضح أن قرار تحديد عدد نسخ الفيلم الأجنبى بـ10 لم يعد مطبقا، أصبح هناك من يغض الطرف عن تطبيق القرار، بالمناسبة أنا لست ضد زيادة عدد الأشرطة المسموح بعرضها للفيلم الأجنبى، حتى فى الأعياد، ولكن على الدولة المسارعة بوضع أسس جديدة لتحقيق الانضباط، لا يسعد أحد قطعا أن نجد القاعات خاوية، لأن القانون لا يسمح، ولكن أنا ضد اختراق القانون مهما كانت المبررات، يجب أن تمتلك «غرفة صناعة السينما» زمام المبادرة لتعيد صياغة القرار بما يحقق التوازن بين حماية الفيلم المصرى، وفى نفس الوقت حماية الصناعة، ورعاية حق المتفرج فى رؤية الأفلام الأجنبية. فى الأعوام الأخيرة، كثر الحديث عن المحتوى المطلوب توافره فى الفيلم والمسلسل والمسرحية والأغنية، بينما عمليا لا يمكن أن تطلب من مبدع تقديم عمل فنى محمل بقيم البطولة والإيثار والعطاء والبناء والتضحية، النسيج الإبداعى هو الذى يتبنى الأفكار، بدون أن يفرضها أحد، عمق الفن يكمن فى تلك الومضة الخاصة التى تنبع من الوجدان وتتفجر تلقائيا وبدون إملاءات، تغتال روح الفن.التحدى يكمن أولا فى أن نمنح الفنان الحرية ونتابع بعدها ردود الفعل، الرقم وكثافة المتابعة وحرارة المشاعر هى التى تدفعنا لكى نسأل كيف ولماذا وصل هذا العمل الفنى، بينما أخفق العمل الآخر؟ البعض يعتقد أن الفن أقرب لتركيبة كيميائية، إذا كان المطلوب مثلا أعمالا فنية لبث الروح الوطنية، فيتم التكليف من خلال أجهزة الدولة، بينما الفن لا يصنع بأوامر، وإليكم مثلا ما حدث فى حرب 56، قصة تكررت مع لحنين، الأول الموسيقار محمود الشريف، صوت الغارة يدوى بينما الشريف يجد نفسه يستجير بالعود، فلقد كانت زوجته مريضة بالقلب، ولا يمكن أن تهبط للمخبأ فى الدور الأرضى، ووضع الشريف الكلمات الأولى «الله أكبر فوق كيد المعتدى»، واتصل بالشاعر عبدالله شمس الدين فأكمل النشيد. ولا نزال نردد «الله أكبر» حتى الآن، لديكم أيضا الموسيقار كمال الطويل فى نفس اللحظة، يستمع لصافرة الغارة، يلجأ للبيانو ويبدأ فى صياغة «والله زمان يا سلاحى» ويتصل بصديقه الشاعر صلاح جاهين ليكتب الكلمات ليصبح هو نشيدنا القومى بعد أن رددته أم كلثوم.لا أحد يطلب أو يفرض على الفنان، ولكن يجب أن تتسع النظرة للإبداع، ليس مطلوبا أبدا فرض نوع أو نمط، نقابة الموسيقيين مثلا طاردت مطربى المهرجانات بدعوى الحفاظ على الذوق، رغم أن هذا النوع من الغناء بتنويعات أخرى منتشر فى العالم، دور النقابة هو المساهمة فى خلق مناخ صحى للإبداع وليس مطاردة الأغنيات التى لا ترضيهم، الأغنية التى صارت «تريند» قبل نهاية هذا العام هى «ملطشة القلوب» والمطرب مصطفى شوقى، تخطى كل الحواجز الرقمية، ولا أجد فى كلماتها لصابر كمال، ما يمكن أن يخدش الحياء، لا أتصور أن غدة المنع لدى هانى شاكر من الممكن أن تستيقظ فجأة ليمارس هوايته الأولى فى المصادرة، على اعتبار أن هوايته الثانية هى الغناء.المسرح بجناحيه العام والخاص بدأ مرحلة الإفاقة، وشاهدنا الرائع يحيى الفخرانى يقدم على القطاع الخاص «الملك لير»، ليمنحنا أمل، ولكن لا نزال ننتظر يقظة كُبرى للمسرح.ويبقى أن الخطوة الأولى هى أن تمتلك الدولة الإرادة لمنح الحرية للمبدعين بعيدا عن تلك الترسانة من المحاذير والمحظورات.سألوا مؤخرا الكاتب الكبير وحيد حامد عن سر ابتعاده، فأجابهم: أخشى أن أتقدم للرقابة بسيناريو يدخل إليها فلا يخرج أبدا منها.التحدى هو الحرية، والحرية هى التحدى، وعلينا أن نسارع بفتح الأبواب قبل أن نُصبح «ملطشة القلوب».
مشاركة :