من الصعب تحديد المعنى أو المغزى السياسي لعملية «الإخراج القضائي» للتسريبات المصوّرة لميشال سماحة، والتي ستنتهي بعد بضعة أشهر بخروجه حراً ومجرّداً من حقوقه المدنية. من الصعب تحديد هذا المغزى لكون «كلفة» إخراج كهذا تفوق أي مكسب قد يحقّقه حلف الممانعة من جراء تحرير سماحة، خصوصاً بعدما ارتبطت شخصيته بصورة آكل الصبّير المؤامراتي. فمن المستبعد، وإن لم يكن مستحيلاً، أن يعود سماحة إلى السياسة، كائناً ما كان تعريفنا لمفهوم السياسة، وهو المحكوم عليه قضائياً بتهمة «إدخال مواد متفجرة من سورية» إلى لبنان تهريباً، أي بتهمة الإرهاب والتفجير والاغتيال. ولا تكمن صعوبة «إعادة تدوير» سماحة سياسياً في كونه خطّط لاغتيالات أو تفجيرات بالتنسيق مع النظام السوري. فتهمة كهذه تطاول عدداً من حلفائه، كما تشير اتّهامات المحكمة الدولية، والتي باتت حاجة أكثر إلحاحاً اليوم بعد فضيحة القضاء العسكري هذه. فمشكلة سماحة في صورته وهو يخطّط لاغتيالات وتفجيرات، وهو ما وضع اسماً ووجهاً على صيغة المجهول التي واكبت العنف و«أحداثه» في لبنان. فهناك، في مكان ما رجل يدعى ميشال سماحة، يأكل الصبّير تحت القناطر وهو يخطّط لأحداث نجح اللبنانيون في الماضي بالتعايش معها لكونها مجهولة الفاعل. بيد أنّ التسريبات قضت على هذا المَخرج المعرفي للأزمة الأخلاقية المتعلّقة بالعيش في حالة عنف، واضعة الجميع في وجه حقيقة فادحة وفاضحة، قد لا يستطيعون تخطّيها. فبات ميشال سماحة هو «الآخر» في حروب الآخرين على أرضنا، و«الغريب» الذي دخل إلى الضيعة خلسة، و«صاحب الجسد» التي تنتمي إليه يد الغدر، وأحد «وطاويط الليل» التي تزرع القنابل في مكعبات النفايات. بات، بكلام آخر، الفاعل الوحيد في تاريخ رُوِي في صيغة المجهول، وهذا ما يجعل إعادة تدويره عملية مستحيلة، هذا إن لم تُعد صياغة الرواية بأكملها. غير أنّ لا شيء مستحيلاً على المؤسسة العسكرية، التي أخذت على عاتق قضائها إعادة تدوير من لا يُدوّر، بقرار من قاض لم يظهر على الإعلام إلاّ محمولاً على الأكتاف لنجاحه في مهمته المستحيلة هذه. وقد يكون لهذا القرار، الذي قد يستأنف أو لا، أثر أكبر على الإجماع اللبناني شبه المعدوم من أثره على أي من التسريبات، كونه «طبّع» انتهاك سماحة للعقد الرمزي والخطابي القائم على عدم الإفصاح عن هوية الفاعل. فهذا القرار لم يطبّع الانتهاك فحسب، بل يمكن القول إنّه كافأه من خلال فرض عقوبة هزيلة، على الأرجح دافعها الرئيسي بعض من الحياء المتبقي في مكان ما من أروقة المحكمة العسكرية أو الحمّام العسكري. فقد كرّس القرار الانتهاك وشرّع عملية دفع حدود المقبول إلى مستويات قد لا يتحمّلها الإجماع شبه المعدوم أو المؤسسة العسكرية ذاتها. فالسؤال، إذاً، عن جدوى قرار كهذا وثمنه الباهظ، هذا إذا لم يكن مجرّد هفوة ارتكبها القضاء العسكري. فمع قرار كهذا، يكون حلف الممانعة قد كسر عقداً ضمنياً كان يشكّل الحد الأدنى لهيمنة حزب الله على البلد، وهو السماح للخصم المغلوب بمخرج لغوي أو خطابي لوضعه السياسي والأمني. فصيغة المجهول تؤمن للخصم إمكان تقبّل خسارته من خلال وضع بعض من المسافة بين الفعل والفاعل، ما يسمح للفاعل بحصد نتائج فعله من دون مسؤوليته، وللمفعول به بتقبّل الفعل والحفاظ على بعض من الاحترام للذات. هذا هو سرّ الهيمنة، والفارق بينها وبين السيطرة. ولفترة قصيرة، كان مشروع حزب الله يبدو وكأنّه يهدف إلى فرض هيمنة على البلاد، بأن يضيف إلى سيطرته الأمنية أبعــاداً سياسية وثقافية ومفهومية، تسمح بتطويع الخصم في نظامـــه. هذه التجربة ظهرت مع «ورقة التفاهم» ومن ثم «حرب تموز»، ومحاولات تدويل نصرالله من خلال ربطه صورياً برمـــوز كالرئيس الراحل شافيز أو لبنانياً من خلال زرعه لأرزة أو من خلال التمسّك بأي تصريح لفنان «يحب» نصرالله. بيد أنّ هــذا المشروع فشل، وعاد حزب الله، وهو ذاهب إلى سورية، إلى مشروع سيطرة بحتة، لا تحتاج إلى أكثر من خطة أمنية للإمساك بالأمور. ومع هذا التحوّل، «انحدر» نصرالله من مشروع زعيم للأمة إلى أحد الناطقين بلسان النظام السوري، وبات في «تقاعده» هذا، لا يختلف عن جوقة «المحللين الاستراتيجيين» التي خرجتّها المؤسسة العسكرية ذاتها. وفي هذا المعنى، جاءت مسألة سماحة لتكرس سقوط مشروع الهيمنة وتحوّله إلى مشروع سيطرة بحتة. فقرار إخلاء سماحة ضرب لأي إمكان تلاقٍ بين الأطراف المتصارعة، بعدما اعترف وتباهى طرف بمحاولته قتل الآخر. في هذا السياق، فإن ميشال سماحة هو التكثيف الرسمي لمذيعة التلفزيون التي تمنّت امتداد الاغتيالات إلى من تبقى من أخصامها، ولموزّع البقلاوة الذي احتفل علناً بالقتل، ولزعيمهم السياسي الذي أضفى المجد على اليوم الأول من الحرب الأهلية الآتية. غير أنّ هذا القرار ضرب أيضاً المؤسسة العسكرية التي حاول البعض تمريرها بوصفها المؤسسة الأخيرة «الجامعة» في بلد انهارت مؤسّساته أو انقسمت بحسب الطوائف. فقد أكّد القرار الأخير الشبهات حول مسألة انحياز الجيش اللبناني لطرف على حساب آخر، أو على الأقل اختراقه من قبل عناصر «ممانعة». وهنا أيضاً، ضحى حلف الممانعة بهذه المؤسسة المهيمنة ليحوّل ما تبقى منها إلى دكانة مسيطرة، قد تفي بدورها لفترة قصيرة من الزمن في القلمون أو عرسال، قبل أنّ تنتهي صلاحيتها. ... قد يكون سرّ الهيمنة في فن إخراج الربح كخسارة تسمح بتثبيت المكاسب من خلال إشراك الخاسر في جنازته. لم يتعلّم حزب الله الخسارة، بل بات مدمناً للربح وإن على شكل «هوبرة»، ليصبح أسير هذا الإدمان، على حساب هيمنته، وربّما، في وقت لاحق، سيطرته نفسها.
مشاركة :