وكأن مسيو ماكرون في مقابلة له مع مجلة الايكونوميست الايطالية الاسبوعية، التي نُشرت يوم الخميس (7 نوفمبر) من هذا العام حينما قال: "ما نشهده حاليًا هو موت دماغي لحلف الناتو". وهذا ما أشرت إليه في مقال سابق نشر في نهاية العام الفائت. ينطبق تقريبا على حال معظم المؤسسات والهيئات التي تشكلت على أنقاض الحرب العالمية الثانية. فكما أن حلف الناتو هو أحد تلك المؤسسات التي تشكلت في هذه الفترة كذلك كانت جامعة الدول العربية التي أصابها الوهن بعد سبعون عامًا من تأسيسها.معظم المؤسسات المتشكلة في تلك المرحلة يلزمها الإصلاح والترميم والذي ينبغي أن يعقبه النهضة حتى تستعيد عافيتها وتقوم بمسؤولياتها تجاه الشعوب التي تتطلع إليها أوقات المحن والصعوبات التي تضرب المنطقة. إلا أن الجامعة العربية وصلت لمرحلة قيل من خلالها عن العرب أنهم اجتمعوا واتفقوا لمرة واحدة فقط وهي أنهم "اتفقوا على أن لا يتفقوا".هذا الشعار لازم الجامعة العربية في مختلف المراحل التي مرت فيها المنطقة، ودائمًا ما كانت الشعوب ترنوا عيونها لهذه المؤسسة عن ماذا ستتخذه من قرارات، إلا أن سرعان ما تصاب الشعوب بحالة من الإحباط واليأس جراء القرارات الفضفاضة وغير الملزمة ويرجع فيها المندوبون لدولهم وجعبتهم خالية من أي حتى مسكنات يقدمونها لشعوبهم لتهدئة غضبهم أو حالة النفور التي اعترتهم.الآن ونحن في أصعب المراحل التي تمر فيها المنطقة والتي تشهد الكثير من التقلبات والاصطفافات الجديدة، نتيجة حالة الفوضى المنتشرة في المنطقة وكذلك نتيجة التدخلات الإقليمية والدولية الحاصلة فيها. كان يتوجب على الجامعة العربية اتخاذ القرارات المهمة والمصيرية البعيدة عن منطق إدارة الأزمة والدخول في حلها. غير أن حالة التشتت واختلاف الرؤى بين الدول والأنظمة والتموضعات الغريبة لبعض الدول، تحول دون اتخاذ القرارات الصائبة.قرار ضرب ليبيا وكذلك تعليق عضوية سوريا التي اتخذتهما الجامعة العربية وغيرها من القرارات، الآن نرى تداعياتها على عموم المنطقة وخاصة أن حريق الفوضى يقترب أكثر من مقر هذه الجامعة. خاصة بعد المستجدات السريعة التي تتم هذه الأيام. حيث اتخاذ البرلمان التركي قرار تفويض الجيش في التدخل في ليبيا وإرساله عناصر من الجيش إلى ليبيا ودعمها ماديًا ولوجستيًا هدفه الأول والأخير هو ضرب مصر ونشر حالة من عدم الاستقرار فيها، وإن كان التفويض يخص ليبيا بالاسم فقط.موقف الجامعة العربية الضعيف مما كان وما زال يحدث في العراق وسوريا أوصلها لما هي عليه الآن من الوهن والتراخي فيما يحدث في ليبيا. الاجتماع الأخير الذي عُقد من أجل مناقشة المستجدات والتطورات المتسارعة في الميدان الليبي، نتائج هذا الاجتماع لم يكن ضمن حدود المستوى المطلوب أو حتى دون مستوى التحديات التي تحيط بالشمال الأفريقي. خاصة أن عين أردوغان ليس فقط على الثروات الليبية، بقدر ما هو على الشمال الإفريقي برمته.الدول العشرة التي لم تعترض أو لم توضح موقفها من محاولات أردوغان وتركيا في احتلاله لليبيا، هي الدول نفسها التي بقيت صامتة عن الحق في سوريا حينما كان أردوغان يرسل جنوده ويدعم المرتزقة والارهابيين لاحتلال الشمال السوري. والآن هي نفس الدول التي تلعب لعبة القرود الثلاث "صمٌ، بكمٌ، عميٌ"، لما يخطط له أردوغان ويسكتون عن حق الشعوب في الكرامة.وأعتقد أنه حان لمصر أن تفكر خارج هذا الصندوق و/أو تابوت (الجامعة العربية)، عن مصالحها والمنطقة وأمنها القومي، لأن الخطر جلل وكبير وما يُحاك أكبر بكثير مما نراه ونشاهده من عربدات أردوغان وتصريحاته الاستفزازية و أكبر من مسرحية تفويض البرلمان التركي للجيش بالتدخل في ليبيا. لأننا جميعًا ندرك ونعلم أن أردوغان ليس إلا أداة وحالة وظيفية في يد القوى المهيمنة الدولية، ودوره سينتهي حال انتهاء الوظيفة. ولكن حتى انتهاء هذه الوظيفة فأنه سيكون البلطجي المتوحش ينشر الخراب والموت والدمار في كل مكان. وأن عقيدة أردوغان النابعة من نهج الاخوان المسلمين التي لا تعترف بالأصل بالحدود هي أكبر من التفكير الاقتصادي.حينما قلنا في بداية المقال إن "الجامعة العربية ميتة دماغيًا"، فهذا ليس بالتجني بقدر ما هو تشخيص لواقع يبدو بالأفضل كثيرًا حينما نقتنع بأنه ربما يكون الأمن القومي المصري يبدأ من جبال قنديل وطوروس جنوب الأناضول وهذا ما كان تاريخيًا. وما حملات تحتمس وامنحوتب الثالث في بلاد الشام إلا للبحث عن أمن مصر وكذلك حملاتهم باتجاه برقة غربًا والنوبة جنوبًا والحجاز شرقًا. نقطة ضعف أردوغان بالرغم من عنجهيته هم الكرد في الأجزاء المختلفة من دول المنطقة. وهم الشعب القاطن في جنوب الأناضول أي في الخندق الأول للدفاع عن المنطقة برمتها من الهجمات الشمالية. التواصل معهم من كافة النواحي وعلنيًا ربما تكون الخطوة الأولى في الحفاظ على أمن المنطقة برمتها.
مشاركة :