كشف مقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني والقيادي بالحشد الشعبي العراقي أبومهدي المهندس بضربة جوية أميركية في مطار بغداد الدولي، حقيقة ميزان القوّة القائم في العراق. وكان كثيرون يعتبرون ميزان القوّة مختلاّ لمصلحة إيران بفعل امتلاكها ما يشبه الجيش الرديف المكوّن من عشرات الآلاف من عناصر الميليشيات الشيعية المنتشرة في عدّة مناطق من البلاد، لاسيما مناطق الربط بين الأراضي السورية والعراقية، ليتبّين من خلال مقتل سليماني والمهندس بعد أيام من مقتل وجرح العشرات من ميليشيا حزب الله العراق بضربة جوية قرب الحدود السورية، أنّ السيطرة الأميركية على الأجواء العراقية والتي تصل حدّ التسيّد الكامل عليها، تبقي زمام المبادرة بيد واشنطن، وتُفقد السيطرة الإيرانية على أجزاء من العراق عن طريق الميليشيات قيمتها، هذا إن لم تتحوّل الميليشيات المنتشرة على الأرض دون غطاء جوّي إلى عبء سياسي وأمني على إيران. ويبدو أنّ إيران كانت تقيم حسابات خاطئة بشأن درجة التصعيد التي يمكن أن تبلغها الولايات المتحدة ضدّها، حتى أن سليماني كان يتنقّل بنوع من الأمان والاطمئنان بين لبنان والعراق، معتقدا أن قتله مجازفة كبرى لا يمكن لواشنطن أن تقدم عليها، الأمر الذي يفسّر وجوده في موكب واحد مع المهندس داخل مطار تقيم فيه قوات الأمن وشركات أمنية خاصة حواجز بانتظام. وقال الباحث في معهد بروكينغز رانج علاءالدين “ستطرح إيران أسئلة كثيرة على العراقيين: كيف علمت الولايات المتحدة بوصول سليماني إلى بغداد، ومن سرّب المعلومة؟”. وينذر اغتيال الجنرال الإيراني النافذ والقيادي الكبير في الحشد الشعبي العراقي بانقلاب المعادلات ويضع العراق على حافة الهاوية، بحسب تحذيرات خبراء. واعتبر رئيس الوزراء العراقي المستقيل عادل عبدالمهدي أن الغارة الأميركية التي قتل فيها سليماني والمهندس عند مدخل مطار بغداد “تصعيد خطير يشعل فتيل حرب مدمرة”، منددا بما وصفه بـ“خرق فاضح لشروط تواجد القوات الأميركية” في البلاد، وملمّحا إلى أن بغداد قد تعيد النظر في وجود 5200 جندي أميركي على أراضيها. ومع مقتل سليماني والمهندس، قطعت واشنطن بصورة مباغتة رأس قيادة القوات الموالية لإيران في العراق، إذ أنّ الأول كان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني ويتابع تحديدا الشؤون العراقية، فيما الثاني كان القائد الفعلي لقوات الحشد الشعبي المعلنة بصفة شكلية جزءا من القوات العراقية. وبعدما بقيت طويلا في موقف المتفرج إزاء الانتفاضة الشعبية التي يشهدها العراق منذ ثلاثة أشهر والتي وجّه المحتجون خلالها غضبهم بشكل واضح ضدّ النفوذ الإيراني الواسع في البلاد، لجأت واشنطن إلى الخيار العسكري مستهدفة مباشرة الجنرال سليماني الذي كان يشرف على المفاوضات لتشكيل حكومة عراقية جديدة تحفظ المصالح الإيرانية، بالتوازي مع إشرافه على عملية قمع المحتجين. وكانت طائرات حربية أميركية استهدفت الأحد الماضي كتائب حزب الله العراق التي توصف من قبل محور الموالاة لإيران بـ“القوة الثالثة في محور المقاومة بالشرق الأوسط”، ما أوقع 25 قتيلا في صفوف الميليشيا ودمّر مخازن أسلحة تابعة لها. وبعد بضعة أيام، أعلن مسؤول أميركي أن واشنطن سترسل ما يصل إلى أربعة آلاف جندي إضافي جزء منهم إلى الكويت، للدخول على الأرجح إلى العراق في وقت لاحق. وفي وقت مبكّر، الجمعة، بعد ثلاثة أيام على مهاجمة الآلاف من العراقيين المؤيدين لفصائل مسلحة موالية لإيران السفارة الأميركية في بغداد، نفّذ الطيران الأميركي ضربة جوية موجهة بدقة استهدفت موكب سيارات كانت تقل القائدين الرفيعين في الحرس الثوري الإيراني والحشد الشعبي. ويقول رمزي مارديني، الباحث في معهد يونايتد ستايتس إنستيتيوت أوف بيس “لم يكن أحد يتصور أن ذلك ممكن. ستتخذ الأطراف كافة خطوات ارتجالية أقله على المدى القصير، وهذه الوصفة المثالية للحسابات الخاطئة”. وفي مواجهة ما وصفه وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بأنه “تصعيد خطير للغاية”، يُطرح سؤال محوري عن الرد الذي ستقوم به طهران. وتوعد مرشد الجمهورية الإسلامية آية الله علي خامنئي واشنطن بـ”انتقام قاس ينتظر المجرمين الذين لطخت أيديهم بدماء سليماني”، ودعا القيادي البارز في قوات الحشد الشعبي قيس الخزعلي الجمعة “كل المجاهدين إلى الجهوزية” للرد على الضربة الأميركية. بينما أمر الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر باستئناف نشاطات جيش المهدي، أبرز قوة مسلحة شيعية قاتلت القوات الأميركية في العراق، وأعلن الصدر لاحقا عن حلّها دون أن يقوم بذلك فعليا إذ اكتفى بتغيير اسمها إلى سرايا السلام. ويقول الخبير في الشؤون العراقية فنار حداد “من غير الممكن لإيران أن تسدد ضربة حقيقية للولايات المتحدة من دون أن تواجه خطر التدمير الذاتي، لكن في إمكانها أن تحوّل العراق إلى ساحة نار ودماء”. ويصعب التكهن في شأن توقيت رد طهران على اغتيال واشنطن أحد أبرز قادتها والأسلوب الذي ستعتمده لهذه الغاية، في ظل عدم وجود سوابق في هذا المجال. غير أن الأكيد، بحسب ما يقول مارديني لوكالة فرانس برس، أنّ إيران لم تعد قادرة على استخدام قادتها العسكريين في العراق كستار لتهديد ومهاجمة المصالح الأميركية من دون المجازفة بردود. ومنذ سنوات، تحذّر بغداد من إمكان أن يستخدم حليفاها الرئيسيان أراضيها كساحة للقتال أو لتصفية الحسابات، في ظل ازدياد التوتر بينهما حول الملف النووي الإيراني. ويوضّح حداد أنّ “الورقة الأقوى في يد إيران حاليا موجودة في العراق”، مضيفا “إذا كانت إيران تحتاج للرد وفرض قوّتها، وهو أمر يجب التنبه إليه، فلن يقتصر ذلك على إطلاق صواريخ على سفارات لكن الأمور قد تنحو في اتجاه نزاع كبير في العراق”. وفي المقابل، يبدو أن الولايات المتحدة التي أطاحت سنة 2003 بحكم صدام حسين لإقامة نظام سياسي أمني جديد باتت طهران لاعبا أساسيا فيه، تسعى حاليا إلى إعادة توجيه السياسة العراقية، بحسب حداد. ويتابع الباحث “عدم النجاح في ذلك قد يقود العراق إلى طريق النزاعات الداخلية، وهو ما يمكن لإيران أن تدفع بسهولة في اتجاهه”. ويشهد تصاعد نفوذ الموالين لإيران على الساحة العراقية والهجوم على السفارة الأميركية في بغداد على تعقيدات الموقف العراقي حيال أجهزة بغداد الأمنية وشركائها الدبلوماسيين.
مشاركة :