خلال تحضيري للكتابة عن صورة أميركا في الرواية العربية توقفت أمام رواية عواد علي “حليب المارينز” (2008)، ولفت نظري فيها حضور شخصية يهودية تروي فصلين من فصول الرواية الثلاثة والعشرين. صورة روزا في الرواية أعادتني إلى روايات عراقية، أو تجري أحداثها في العراق، أبرزت أيضاً صورة لليهود أو كتبت عن نماذج يهودية، روايات كنت قرأتها وكتبت عن بعضها مقالات تمس الرواية بعامة، لا صورة اليهود فيها وحسب. بعض هذه الروايات صدرت قبل صدور رواية “حليب المارينز”، وبعضها صدر بعد العام المذكور. أشير، ابتداءً، إلى أنني كنت توقفت، في دراسة خاصة، أمام رواية الروائي النجدي عبدالرحمن منيف “أرض السواد” (1999) وكتبت عن صورة اليهود فيها على ضوء صورتهم في الأدبين العالمي والعربي. ومنيف لم يكتب عن يهود العراق في القرن العشرين، إنما عن اليهود هناك في بدايات القرن التاسع عشر، حيث تجري أحداث روايته في العشرين سنة الأولى من القرن التاسع عشر، ما يعني أنه لم يكتب عن يهود عرفهم وأصغى إليهم، وإنما كتب عن يهود قرأ عنهم في الكتب. في العام 2000 أصدر علي بدر رواية عنوانها “مصابيح أورشليم: رواية عن إدوارد سعيد”، وهي لا تأتي على يهود العراق، وإنما تكتب عن اليهود في مدينة القدس، المدينة التي لم يزرها الكاتب، وإنما عرفها من خلال أطلس جغرافي، ومن خلال خريطة غوغل، وأيضاً من خلال روايات كُتّاب إسرائيليين قرأ رواياتهم بلغة أخرى غير العبرية، وكانت شخوص روايته من المؤلفين الإسرائيليين ومن أبطال رواياتهم، ومن بعض كتابات إدوارد سعيد، ابن المدينة، عن المدينة. هذا يعني أن علي بدر يعيد كتابة تخيل الذات لذاتها، كما بدا في الأدبيات الإسرائيلية، وتخيلها لآخرها العربي، بل وتخيلها لتخيل العربي لها. هل قدم علي بدر تصوره أو تصور أبطاله هو لليهود؟ يهود "بابا سارتر" يختلف الأمر في رواية ثانية لعلي بدر هي “بابا سارتر” التي يكتب فيها عن بغداد في ستينات القرن العشرين. في هذه الرواية ثمة حضور، لا بأس به، لليهود، حضور يبرز تصور سكان العراق لهم، وفي الوقت نفسه حضور يتجسّد عبر شخصيات يهودية عراقية أصلاً، ظلت مقيمة في وطنها، ولم تهاجر إلى إسرائيل أو إلى أميركا أو أوروبا. ويتجسد هذا في “شاؤول” وفي إيلين إفرايم ووالدها. والحضور الأكبر يكون لشاؤول الذي خانته زوجته وغادرت العراق، وتركه أبناؤه إلى لندن. شاؤول صاحب متجر وله فلسفته الخاصة: إنه يريد، من خلال العقل، إنشاء مستعمرة السعادة، وهو يعنى بالفكر أكثر مما يعنى بالحياة العملية، ومنذ تخلى عنه عامله وقريبه، أخذ يبحث عن تابع له ليستغله، وليجعل منه شخصاً عبداً، يحركه كما يشاء، وحين حاول هذا مع سليم لم ينجح، فقد كانت فلسفة سليم على النقيض من فلسفته. سليم يحب الحرية والسكر والعربدة واللذة. إلى جانب شاؤول هذا الذي يكتب ثروته لزوجته التي خانته ولأبنائه الذين تركوه، وهو الذي يجمع المال لا لينفقه وهو حيّ، وإنما يجمعه لينفقه وهو ميت (؟) هناك المرأة اليهودية الجميلة إيلين، إنها يهودية جميلة جداً تكون موضع نظر كثر، وهناك والدها إفرايم، وهو صراف مراب يلجأ إلى الخديعة لإذلال من لا يروق له. هكذا تتكرر في الرواية، بقصد أو دون قصد، صفات تقليدية لليهود: حب المال، الصيرفة، الربا، الجبن، حب الجنس، الأنف الطويل، جمال المرأة اليهودية، فهي تشبه الطليانيات و.. و.. ولكن اللافت هنا أن حارة اليهود كانت تبدو قذرة، وهي تذكّرنا بحي اليهود الذي كتب عنه نجاتي صدقي قصته “شمعون يوزاجلو”، بل وتذكرنا بالصورة التي أبرزها “ثيودور هرتسل” ليهود الشرق، وللشرق بعامة، وليافا وللقدس، في روايته “أرض قديمةـجديدة” (1902). يهوديان عاشقان في العام 2003 سينشر جاسم المطير رواية عنوانها “عاشقان من بلاد الرافدين” وهي مجموعة رسائل بين عاشقين يهوديين هما راشيل وكرجي، كتبت الرسائل بالأصل باللغة العبرية، كما ورد في مقدمة الرواية، ثم ترجمت، فيما بعد، إلى العربية، فكونت الرسائل الرواية. والرواية تأتي على يهود العراق وأحداث الفرهود حتى تهجير يهود العراق. هل تختلف صورة اليهود في هذه الرواية، بل وتصورّهم للآخرين، عما هو شائع في الأدبيات السابقة لها؟ وهل تختلف في روحها العامة عن تصورات ماركسي للشعوب وللعادات وللتقاليد؟ وإذا كان “هيو بوليت تين” ركز في دراسته للأدب على العرق، فإن الماركسيين رفضوا هذا واستبدلوا به الطبقة. هكذا لا توجد أعراق صافية تمتاز بخصائص تُورثُ لها، ولا توجد ديانات أيضاً يمتاز أبناؤها بخصائص ثابتة تميزهم عن غيرهم. اعتماداً على ما سبق سيكون اليهود مثل غير اليهود، وسيكون غير اليهود مثل اليهود. ليس البغاء أو القوادة أو الإخلاص أو حب الوطن أو الكرم أو البخل مقتصراً على شعب أو على أبناء ديانة، ومن هنا سنجد يهودياً يحب العرب ويحب التعامل معهم، ويحب المسلمين والتعامل معهم، وسنجد أخاه على عكسه يكرههم ولا يحب التعامل معهم، وسنجد يهودية شريفة وأخرى بغيّا، وكذلك ستطالعنا بغايا مسلمات وشريفات مسلمات، وليس الزواج بين أبناء الديانتين مقتصراً على رجال هذا الدين دون الدين الثاني. ثمة يهود يتزوجون من مسلمات، كما أن ثمة مسلمين يتزوجون من يهوديات. رواية المطير تجمع في ثناياها الصور المتناقضة لليهود، الإيجابية والسلبية أيضاً، تأتي على يهود يحبون المال ويتعاملون بالربا، ولكنها في المقابل تأتي على آخرين منهم يقرضون المال للأغيار بلا فوائد مثل والد كرجي. وإذا كانت راشيل شريفة، فإن عمتها شبقة جنسياً وتمارس البغاء. وهناك يهود يتجسسون على يهود، وهناك يهوديات يُقوّدن على فتيات. والرواية تأتي على يهود عراقيين يُحبّون العراق ويرونه وطنهم، فكرجي بلا انتماء.. “أنا يهودي الدين والنسب، وطني هو البصرة”. وخلافاً له والد راشيل الذي يكره العرب، ولا يحب التعامل مع المسلمين، يتحول إلى يهودي صهيوني، والصهيونية تبث الكراهية بين الناس. وتعزز الرواية فكرة شجاعة بعض النساء اليهوديات في الحب، وعدم ترددهن في إقامة علاقات مع من يحببن قبل الزواج، بل وخارج مؤسسة الأسرة، كما تفعل عمة راشيل. أما فيما يخص نظافة اليهود فهناك تباين في الرأي، فثمة من يراهم نجساً يجب غسل الأواني بعد تناول الطعام فيها، وثمة من يراهم أنظف الناس. وحين تبدأ أحداث الفرهود سيشعر يهود العراق بالخوف، علماً بأنهم يحبون العراق ويرون فيه وطنهم. حليب المارينز رواية عواد علي “حليب المارينز” تجري أحداثها في كندا بالدرجة الأولى، وجزئياً في العراق، وزمنها الروائي يبدأ مع بداية حرب 2003 في آذار وسقوط بغداد في نيسان من العام نفسه، ولكن شخصياتها، ومنها الشخصية المحورية سامر الذي يكتب رواية، غالباً ما تتذكر الماضي، فحدث ما يذكّر بحدث، وشخصية ما تذكّر بشخصية، وتجربة ما تذكّر بتجربة، وهكذا يرتد الزمن إلى سبعينات القرن العشرين وبداية الحرب العراقية-الإيرانية ومشاركة سامر فيها. والعراقيون في كندا، إلاّ أقلهم، أعني شخصيات الرواية هنا، يبدون منسجمين مع بعضهم ومتآلفين، فهم لا يلتفتون إلى الطائفة أو الدين. إنهم عراقيون قبل كل شيء، كأنهم يعيدون العراق الذي كان قبل الدكتاتورية، وقبل الغزو الأميركي الذي أفسد الوطن، كما أفسده الدكتاتور، ومن هنا تكون روزا شخصية متآلفة مع المجموعة، فهي ابنة يهودي عراقي، على الرغم من أنها لم تولد في العراق، وهي تحتفظ بأوراق أبيها التي كتب فيها ذكرياته عن وطنه، والتي كتب فيها عن تهجير يهود العراق إلى إسرائيل، وعدم انسجامهم في الدولة الجديدة التي تعامل فيها اليهود الأوروبيون بتعال مع يهود العراق، ولمّا لم ينسجموا مع الواقع الجديد هاجر الأب وترك إسرائيل، واستقرت روزا الفنانة في كندا، وظلت أمها تطبخ الطبيخ العراقي. روزا فنانة مبدعة وفية كأنها سموأل القرن الحادي والعشرين، تحفظ الجميل وترده أضعافاً مضاعفة، وحين يختطف ساهر الشقيق الأصغر لسامر ويطلب الخاطفون فدية تتبرع بما يعادل خمسة وعشرين ألف دولار. وتظل روزا تطمح بزيارة العراق، ولكن حين تستقر الأحوال وتقوده قيادة ذات نزعة علمانية. يهود العراق اقتلعوا من جذورهم، كما يكتب والدها، وكانوا ضحية لحكومة العراق التي هجّرتهم بحجة أنهم يهود، وضحية حكومة إسرائيل التي نظرت إليهم على أنهم عراقيون، وعوملوا في “المعبراه” معاملة لا تليق ببشر. وروزا هنا تختلف عن شايلوك اختلافاً كلياً. شايلوك في الرواية يتجسد في مواطن ذي أصل شرق آسيوي، حيث يكون جشعاً، وهو بوذي، ويكون هذا موضع احتقار لروزا. وليست روزا هي المرأة اليهودية الوحيدة في الرواية. هناك إستير التي يصطادها عراقي ويقيم معها علاقة عابرة، في إحدى المدن الكندية، إنها من أصول إثيوبية وهي متزوجة، ومع ذلك لا تمانع في إقامة علاقة عابرة تستمتع بها. هل أراد عواد علي أن يقول لنا: إننا في المنفى نحيا كما كنا نحيا في العراق الحضاري، قبل أن يستبد به الدكتاتور، وقبل أن يحتله الأميركيون الذين جعلوا من الدكتاتور عشرين دكتاتوراً، حيث ظهر عصر الطوائف؟ وهذه الفكرة ستتجسد في روايات عراقية عديدة أنجزت بعد العام 2008، ومنها روايات “يا مريم” لسنان أنطون، (2012) و”طشاري” (2013) لإنعام كجه جي، وسيذكر اليهود أيضاً في رواية “فرانكشتاين في بغداد” (2013) وإن كان ذكرهم عابراً. اليهود وإسقاط الجنسية في “يا مريم”، في المدرسة، في زمن سابق لتهجير يهود العراق، أي قبل العام 1950، عام إسقاط الجنسية عن اليهود، كان يوسف المسيحي يتوسط نسيم حزقيل اليهودي وسالم حسين المسلم، وكان الثلاثة أصدقاء، وجاءت أحداث العام 1950 لتفرق بينهم. ومع أن والد نسيم رأى في أحداث الفرهود غيمة عابرة، وأنها ستمرّ، ولهذا لم يفكر في مغادرة العراق، إلاّ أن الهجمات على أماكن كان اليهود يرتادونها جعلته يرحل، وهي هجمات تبين، فيما بعد، أن عصابات صهيونية نفذتها-بدت الفكرة هذه أيضاً لدى والد روزا في “حليب المارينز”ـ . لقد فصل والد نسيم من عمله وجمدت أموال العائلة وممتلكاتها، فقررت هذه أن تسجل أسماءها لتهاجر، وهاجرت، وهكذا فقد الصديقان المسلم والمسيحي صديقهما اليهودي. لم تختلف رواية إنعام كجه جي “طشاري” (2013)، وهي تعالج الموضوع، كثيراً عما كتبه سنان أنطون. تأتي الرواية على قانون إسقاط الجنسية وما ألمّ بالطلاب اليهود في الجامعات، حيث لم يقبلوا فيها للدراسة و.. و.. ولم تكن الأمور من قبل على هذه الشاكلة، فقد كان للدكتورة المسيحية وردية صديقات مسلمات، سنة وشيعة، وصديقات يهوديات، ولم يفسد النسيج الاجتماعي للشعب العراقي إلاّ الصراعات السياسية التي بدأت. كانت الفتيات اليهوديات يتبرعن للجمعيات وكن يعايدن على المسيحيات والمسلمات: يشربن الشاي ويأكلن الكليجة، وتدور بينهن أحاديث لطيفة. وهناك من يهود العراق من آثر البقاء في العراق بلا جنسية، مثل أبو يعقوب وأم يعقوب صديقة د. وردية، ولم يكن من أهل الديوانية من يضايق هذين، ولم يكونا يضايقان أحداً، ولكن لما نصبت المشانق (للجواسيس اليهود) في ساحة التحرير في بغداد وتوترت الأجواء صار أبو يعقوب يسمع ما لا يحب وراح الأخضر بسعر اليابس، وهكذا هاجر. والسطر التالي يبين ما تريد الروائية قوله بوضوح. كأنه مغزى الكاتبة “إن الأمور لم تكن كذلك في السابق. تعيد عليه معزوفة أنهم كانوا جميعاً إخوة وأحباباً وأبناء وطن واحد”. في رواية “فرانكشتاين في بغداد” (2013) لأحمد سعداوي ذكر لحي اليهود الذي صار خرابة، لكن العراق، مع الاحتلال الأميركي، صار كله مثل “هاي الخرابة اليهودية”.
مشاركة :