عبد المنعم رمضان وأسماء أبيه الثلاثة

  • 5/25/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ليس عليك إلا أن تنصت جيداً، لتندهش وتبتهج، حين تجده يحوّل سيرته الذاتية إلى قصيدة مفتوحة، مازالت شغوفة باستقبال الجديد في حياة الشاعر عبد المنعم رمضان الذي صار هو نفسه قصيدة تمشي على قدمين في شوارع القاهرة. الخليج زارت الشاعر في مقهى زهرة البستان وسط القاهرة، ليقرأ لنا مقاطع من قصيدة حياته، فيبدأ بالنشأة بين أخوين ماتا في طفولتهما، قائلاً: جئت إلى الحياة، ولذلك نشأت محل رعاية خاصة، جعلتني انطوائياً، ويبدو أنها أدت إلى استبدال عالمي الخارجي بعالمي الداخلي، وهذه إحدى الطرق التي قد تؤدي إلى الفن، أبي كان أقرب إلى المتصوفة والدراويش تملؤه الحكايات الدينية، وأمي كانت محبة للغناء، أخذت عن أبي حكاياته ومن أمي أخذت الإيقاع، والحكايات والإيقاع أسهما في أن أمشي في اتجاه الفن. يقول عبد المنعم رمضان: كانت لأبي ثلاثة أسماء، أولها الاسم الذي تناديه به أمه وأبوه، وهو مصطفى، وكان اسمه الحميمي، وثانيها الاسم الذي أطلقته عليه الدولة، عندما جنّد وهو رمضان، وثالثها الشيخ سليم، وهو اسم شخصية غريبة كانت تتلبّس أبي، وكانت تغيب وتأتي وينتظرها كل الذين يتبرّكون به، حيث يحمل في جيوبه الهدايا لهم، وبين الاسم الحقيقي، والرسمي، والأسطوري، شققت طريقاً جديداً إلى الفن. في المدرسة كنت تلميذًا كسولًا، لم ينتبه إليّ أي مدرس، خجول ولا أتكلم وأمشي وحدي؛ في أثناء الطريق كنت ألتقط من الأرض أوراق الصحف وأقرأها، وكانت أختي تنوب عنّي في رسم ما يطلبه منّي المدرس، فأنا لم أنجح قطّ في رسم صورة طيبة، وحتى الآن أتصور أنني أحلم بأن أكون رسامًا، حلم الرسام لا يفارقني، وهذا ما دفعني إلى ما أسمّيه الشعر الصافي، فالموسيقى والرسم لا يعبران عن معنى أدبي أو فكري، وأنا لا يعنيني من الشعر طاقته التعبيرية، بل تعنيني تلك الطاقة الأخرى الموجودة في الرسم والموسيقى. يتذكر رمضان الكتابات الأولى في حياته، مع الحب الأول، الذي كتب عنه أولى رواية، وكان ذلك في المرحلة الثانوية، ثم يتجه إلى الشعر مع ديوانَي المازني وابن خَفاجة وهو يقول: في السنة الثانية من المرحلة الثانوية، دخلت مكتبة المدرسة، واستعرت ديوانين للمازني وابن خَفاجة، وهنا أحسست أنني لا بدّ أن أكتب شعراً، لم أفهم شيئًا من شعر ابن خفاجة، لكنني سرقت كلماته من أجل القافية التي ألزمت نفسي بها، أما المازني فقد أحببته إلى حدّ أنني أعدّه أبي. في تلك الفترة كنت مستغرقاً في الرومانسية، واكتشفت الفنانة نجاة، وهي تغنّي قصائد نزار قباني، لتصبح نافذتي على العالم الرومانسي؛ وفي ما بعد سأنتقم من هذه الرومانسية التي كانت سبباً في عدم تحقيقي مجموعًا في المرحلة الثانوية، لأقوم بإعادة السنة حتى التحقت بكلية التجارة. يتخلص صاحب ديوان الحنين العاري من هذا الجنون الرومانسي، حين يقرأ ديوان مدينة بلا قلب للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ثم يقرر أن يعرض ما يكتبه من شعر عليه، وبعدها يكتب حجازي مقالة في مجلة روزاليوسف بعنوان نداء إلى شعراء المستقبل يبشّر فيها بموهبة رمضان، وهنا يتأكد الشاعر عبد المنعم رمضان أن طريقه هو الشعر، ومن هنا بدأت رغبته في الخروج من العالم القديم الذي يُطارده حتى الآن. الشاعر الذي اختار التفرغ للإبداع الشعري، ظل مسكونًا بفكرة رئيسة، وهي الإجابة عن ذلك السؤال: هل يعمل من أجل أن يحيا، أم يحيا من أجل أن يعمل؟ فاكتشف أن الحضارة الحديثة جعلته يحيا من أجل أن يعمل، وأنه لا بدّ من تصحيح الأمر، ولذلك بعد 12 عامًا من العمل في الجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، اختار رمضان أن vيعتزل العمل، ويتفرغ للقراءة والكتابة. عن هذا الاختيار الصعب يحكي: يبدو أن اعتزال العمل وراثة في عائلتنا، أبي اعتزل العمل في وقت مبكر، وابني يريد أن يفعل مثلي ويعتزل العمل أيضاً، حين أخذت هذا القرار حذّرني البعض من أنني قد أتصور أن الوقت طويل، ومن ثمّ أقوم بتأجيل ما يجب أن أقوم به، لكنني أرغمت نفسي على افتراض أن الوقت ضيّق، لأن ما يجب أن أفعله لا بدّ أن أفعله فوراً، هذا هو التدريب الذي دأبت على القيام به منذ اللحظة الأولى، خاصة أن أكبر ما يهدّدني هو الموت، أغلبنا ينجح في نسيان الموت، وأنا أفشل في نسيانه، لذا يأتي شعوري بضيق الوقت، وسببه عدم قدرتي على نسيان الموت الذي يهددني دائماً، لم أعد موظفاً في الجهاز المركزي، لكنني أصبحت موظفاً في مؤسسة الحياة، الموت أرغمني على ذلك، بعد أن تركت العمل مباشرة، فقدت أمي ثم أبي، وجود الأب يخفي فكرة الموت، وموت الأب يجعل الموت حاضرًا، كأنك أصبحت مرشحًا، عرّاني موت أبي وأمي، وجعلني مكشوفًا. ويشير رمضان إلى أن لبيروت حضورها الطاغي في قصائده، فهي مكانه المتخيّل في مواجهة القاهرة، مكانه الواقعي، فدائمًا- كما يقول- أن بيروت اختياره من المدن، بينما القاهرة قدره الذي لا يستطيع الاعتراض عليه، ولذلك دائمًا ما يحتفي باختياره. عن القاهرة وبيروت يقول: أنا ابن مدينة ولست ابن ريف، وأظنّ أن الفارق بين المدينة والريف، هو أن المدينة تؤكد فرديتنا، والريف يضغط على أنك عضو في جماعة، القاهرة مع الوقت، ومع النظم المستبدّة تكاد تفقد صفتها، فتمحو حقك في أن تكون فرداً، ومع ذلك أحب القاهرة التي أتخيّلها، وليس القاهرة التي أعيشها، الوحيد الذي لا يتعجب من عدم محبة نجيب محفوظ للسفر هو أنا، محفوظ لم يكن يرغب البتة في مغادرة القاهرة، وأنا كذلك، محفوظ سافر ثلاث مرات فقط، بينما سافرت أكثر منه، ومع السفر تأكدت أن المكان الوحيد الذي أتنفس هواءه الملوث وأظنه نقيّاً هو القاهرة. لكنك مع ذلك لا بدّ أن تملك إلى جوار مكانك الواقعي مكانًا متخيلاً، تتصور كلما خلوت إلى نفسك أنه إلى جانبك، ذلك المكان المتخيّل بالنسبة لي كان بيروت، عوامل كثيرة أسهمت في هذا الاختيار، منها: الكتابة اللبنانية، والتعدد الذي يحيي فرديتنا، فهذا التعدد مضاعف في بيروت، بيروت مدن في مدينة، والقاهرة مدينة فقط، والشعراء الذين أحببتهم أكثر كانوا يعيشون في بيروت، وعندما نفرت من أم كلثوم مغنّية الجماعة، لجأت إلى فيروز مغنّية الفرد، النظم المستبدة العربية، قررت في عهد عبدالناصر، أن تكون بيروت حديقة العرب، التي يجتمع فيها كل أعداء تلك النظم من هنا وقعت في حبها، بيروت التي تطلّ على المتوسط؛ ظهرها مسنود على التاريخ العربي، وعيناها مصوّبتان إلى الغرب، هي تلك الحالة التي لا تستطيع معها الركون إلى شكل ثابت، حيث عيناك في مكان وظهرك في مكان، لذلك كان لا بدّ أن تكون بيروت هي حلمي، مع بيروت أنا اخترت، ومع القاهرة أنا مجبر. تمتدّ تجربة عبد المنعم رمضان الشعرية لأربعين عاماً، وحتى الآن لم يحسم أمره بالانحياز لقصيدة النثر، لكنه يرى أنه تجاوز هذا الصراع، لأنه تجاوز فهم الحداثة على أنها اختيار قالب، فالقوالب كلها لديه من الممكن أن تكون صانعة حداثة، وهو يلعب بالقوالب دون أن ينحصر بها، هو يفعل ما يريده وما يشغله فقط، من دون الالتفات إلى النقد، ولا يفضل الانتظار طويلاً، لأن الموت دائماً ما يهدده، لذلك تجده يصدر ديوانه الحنين العاري بخط يده، ليس بهدف اختراع تقليعة جديدة، أو إعلان رفضه للنشر الإلكتروني، بل لأنه ظل مسكونًا بهذه الفكرة ومشغولاً بها لسنوات طويلة، حين قرأ ديواناً لنزار قباني بخط يده. نتجوّل مع عبد المنعم رمضان في وسط القاهرة، ونتنقل معه ما بين المكتبات المختلفة التي يحرص على زيارتها من حين الى آخر، لاقتناء الكتب التي حوّلت منزله إلى مكتبة كبيرة، أصبحت تمثل آلة إزعاج لزوجته، وتمنعها من استقبال الضيوف، وبعد الجولة، يجلس في مقهى زهرة البستان إلى جوار أصدقائه من الكتاب والمثقفين الذين ينتظرون هداياه من الكتب النادرة يوم الجمعة من كل أسبوع، حيث جلسته الشهيرة في المقهى. قبل أن تنتهي زيارتنا نسأل الشاعر عبد المنعم رمضان عن سبب صدور أعماله الكاملة الحلم ظل الوقت- الحلم ظل المسافة- الغبار- قبل الماء فوق الحافة- لماذا أيّها الماضي تنام في حديقتي- غريب على العائلة - بعيداً عن الكائنات - الحنين العاري عن الهيئة المصرية العامة للكتاب رغم موقفه المعادي للمؤسسات الثقافية الحكومية، فيقول: أتصور أن العلاقة مع المؤسسة الثقافية الحكومية تستلزم ضبط المسافة، بمعنى أنني ضد التقرب الشديد منها، وضد الابتعاد عنها أيضاً، حتى يمكن رؤيتها جيداً.

مشاركة :