ثم يحل الليل كآخر أبيات قصيدة بائسة بعد شهقة تملأ فراغات الذكرى، لا أحد يعلم كيف استهلكنا الصمت، وكيف اتخذ الحزن من ضلوعنا ملجأً، وهكذا استمررت بالبحث وطرح الأسئلة على ذاتي حتى يقتحم السواد مدينتي مجددا، فأسارع لأجد مكاناً لي بزاوية القلب خلف كومة الركام تلك. انتشل من قساوة الحياة لذة لأترجم حياة شخصية مجهولة في حلم منسي فينصت القلب للأماكن التي تتحدث عنه في غيابه متأملا ومضات الذكرى. جلست إلى جانبه أود أن أتحدث معه عما في جوفي بكل ما أحمله من يأس وبؤس، فأسرع إلى إغلاق النوافذ وإسدال الستائر ثم أشعل فتيل شمعة ليتسرب ذلك الظلام داخلي محدثاً ثورة من العناد والتسلط، أهدد بصمت وأنتقم بابتسامة، هو سبب حفنة الوجع تلك ويأبى الإفصاح، هو يملك مفاتيح الأحجية ويرفض مساعدتي.. فقط يترقبني كيف أغرق وأُصلب في اليوم ألف مرة، كيف أكل الفقد من جسدي واستقرت كل الخيبات بعمودي الفقري.. أبكي وابتسم في حرف مُعتَّق، يبدع هو بالرحيل فأبدع أنا بالعتاب. تشتعل نيران الذاكرة فجأة كأن الفرح غدا رهين غياب يشتهي التحرّر، كل ذلك الألم مَلموس أشعر به يخترقني لكنني أعاني من صعوبة مميتة في محاولة كتابة ما أشعر به.. كأنني أضعت فمي وذاتي وهروَلت مني الحروف ففقدت كل الكلمات في آن واحد، باهتة هي أيامي حتى غدت الحياة مهمة جهادية أخوضها كمن بلغ الجمود قلبه.. فلاخير في هذا المكان، لا من جد وجد ولا من زرع حصد، لا من قرُب بعد ولا من نسَخ جدّد. أوراقي غدت مهملة كل أحْبار العالم غادرتها لابد لي من تعويذة ملعونة ألقيها على قلمي لتتراقص حروفي من جديد وتتسلل هاربة من ظلام ذلك القعر السحيق. بداخلي تسكنني عجوز طاعنة في السن تسقيني من حكمتها فتهب لي مهارة العبث بالأحرف كي أكون وحيدة، لا أشعر أحداً بمذبحة صدري التي تصرعني دائماً لأعْلق بدوامة الهاوية، أين أتربع على عرش الكبت المميت لأجد بعض الكلمات مستقرة بوتين القلب المهترئ كرؤوس إبرٍ متى ما نطقتَ بها أوجعتْك.. سأقف على ناصيتك أيها الحلم وسأقاتل. ابتلعت غصة شهيقي قبل زفيري لأتيقن أنه ربما تناسبني الحشائش اليابسة والأشواك.. فليغدو الورد لأصحابه، في تلك اللحظة أدركت أنني لن أحلم بالنجاح مجدداً بل سأستيقظ لتحقيقه، سأبوح بأوجاعي لشخص غريب كي يحملها ويرحل لأستطيع بدوري الهروب من ذلك السواد الموجود أسفل عيني المرهقتين لأصل إلى بر الأمان، أخمن العدم منذ البداية.. مع هذا كله لو لم تصفعني الحياة يوماً لما كنت تلك الفتاة اليوم. لو كان الإنسان وحده لما استطاع أحد هزيمته.. يهزم المرء بنقطة ضعفه وهي الأشياء التي يحبها، مذكرات لياليَ البائسة هي كل ما أروي به قلبي العليل، كلماتي لي أقرب من الوريد وأبعد من كل شيء... حبكة الأحرف مهارة تغزوني كما تغزو ملامح البؤس وجه طفل يتيم.. لازلت أتشبث بالعربية لأطلق سراح الحرف الثامن والعشرين كل ليلة.
مشاركة :