قال أبو عبدالرحمن: اشتهر إنكار المجاز مطلقاً عن أبي (إسحاق الإسفرائيني) (الإتقان 2/ 99).. وتفنَّن في الاحتجاج لهذا المذهب الإمام (ابن تيمية) - رحمه الله تعالى - في كتابه (الإيمان)، و(رسالة الحقيقة والمجاز)، و(الرسالة المدنية في الحقيقة والمجاز)، وفي الصفات، وغير ذلك، وتابعه تلميذه الإمام (ابن قيم الجوزية) في عدد من كتبه أوْعبُها (الصواعق المرسلة).. وثمة مذهب ثالث يرى أن المجاز موجود في اللغة، ولا يوجد في القرآن، ونسبوا هذا المذهب إلى الإمام (داوود الظاهري) وابنه (محمد) و(ابن القاص) من الشافعية و(ابن خويز منداد) من المالكية - رحمهم الله تعالى.. انظر كتاب (الإتقان) 2/ 99، وتابعهم من المعاصرين الشيخ (محمد الأمين الشنقيطي) في رسالته (منع جواز المجاز)؛ ومن حججه خلو القرآن من بعض الفنون البلاغية كحسن التعليل؛ وإنما لم يوجد في القرآن الكريم فلأن الجدُّ يراد به الهزل؛ ونحو ذلك.. انظر كتاب (منع جواز المجاز) ص1. قال أبو عبدالرحمن: والذي حدا بالإمام (ابن تيمية) ومن تابعه إلى إنكار المجاز: كثرة دعوى المجاز لدى بعض الفرق الإسلامية حتى تعطلت حقائق الأسماء والصفات؛ ولهذا سماه ابن قيم الجوزية طاغوتاً؛ وما أبعد هذه الدعوى عن الصواب، وقد لاحظ هذا العلامة الشيخ (عبدالله بن عبدالرحمن أبا بابطين)؛ فقال في رده على بعض المخالفين: (وقد ذكرتم أن العرب يضيفون الفعل إلى غير الفاعل؛ فهذا لا يُنكر.. أعني وجود المجاز في لغة العرب؛ وأما وقوع المجاز في القرآن ففيه خلاف بين الفقهاء، حكاه الإمام (ابن تيمية)، وذكر أن أكثر الأئمة لم يقولوا: إن في القرآن مجازاً؛ ورد القول بوجود ذلك في القرآن: واستدل له بأدلة كثيرة.. وعلى تقدير جواز وجوده في القرآن، فمن المعلوم أنه لا يجوز صرف الكلام عن حقيقته حتى تجمع الأمة على أنه أريد به المجاز؛ إذ لا سبيل إلى اتباع ما أنزل إلينا من ربنا إلا على ذلك، ولو ساغ ادعاء المجاز لكل أحد ما ثبت شيء من العبادات، ولبطلت العقود كلها كالأنكحة والطلاق وغيرها، وجل الله أن يخاطب الأمة إلا بما تفهمه العرب من معهود مخاطباتها مما يصح معناه عند السامعين؛ وأيضاً فالكلام إذا قام الدليل على أن المتكلم به عالم ناصح مرشد قصده البيان والهدى والدلالة والإيضاح بكل طريق، وحسم مواد اللبس ومواقع الخطأ، وأن هذا هو المعروف المألوف من خطابه، وأنه اللائق بحكمته: لم يشك السامع في أن مراده هو ما دل عليه ظاهر كلامه؛ وقال الإمام (ابن تيمية) أثناء كلام له: ومعلوم باتفاق العقلاء أن المخاطب المبيِّن إذا تكلم بمجاز: فلابد أن يقرن لخطابه ما يدل على إرادة المعنى المجازي؛ فإذا كان الرسولُ المبلِّغُ المبيِّنُ الذي بيَّن للناس ما أنزل إليهم: يعلم أن المراد بالكلام خلاف مفهومه أو مقتضاه: كان عليه أن يقرن لخطابه ما يصرف القلوب عن فهم المعنى الذي لم يرده.. لا سيما إذا كان لا يجوز اعتقاده في الله، فإنه عليه أن ينهاهم عن أن يعتقدوا في الله ما لا يجوز اعتقاده، وإذا كان ذلك مخوفاً عليهم لو لم يخاطبهم بما يدل على ذلك؛ فكيف إذا كان خطابه هو الذي يدلهم على ذلك الاعتقاد الذي تقول النُّفاة هو اعتقاد باطل؟.. إلى أن قال: وهذا كلام مبينٌ لا مخلصَ لأحد عنه.. انظر كتاب (مجموعة الرسائل والمسائل النجدية) الجزء الثاني/ القسم الثاني آخر الجزء ص 79 - 89. قال أبو عبدالرحمن: فـ(أبو بطين) وهو من أئمة الدعوة: أقر بالمجاز في لغة العرب، ولم يجزم بنفيه في القرآن لأنه جعل وجوده محتملاً في معرض التَّنَزُّل في الاستدلال.. كما أنه جعل المحذور ادعاء المجاز بلا برهان.. وظاهر كلام المتكلم الذي أشار إليه الإمام (ابن تيمية) لا يعني أنه حقيقة اللغة، بل ظاهر كلام المتكلم مراده ومقصده الذي قام البرهان على تعيُّنه، وقد يكون هذا الظاهر حقيقةً لغوية، وقد يكون مجازاً لغوياً؛ وخلاصة القول أن إساءة المبتدعين تطبيق أساليب العرب الصحيحة كالمجاز لا يعني أن المجاز باطل، بل الصواب أن المجاز صحيح تأصيلاً، ولا يقبل تطبيقاً إلا ببرهان. قال أبو عبدالرحمن: كلام هؤلاء العلماء الفضلاء متين؛ ولكن فهمه لدى أكثر أبناء الجيل الآن عسير؛ والمحقق أن المجاز صحيح الثبوت في لغة العرب، وصحيح الثبوت في القرآن الذي نزل بلغة العرب؛ وذلك هو مذهب أهل التخصص في لغة العرب، والاستقراء لنماذجها؛ وكل إمام لم تمكنه ظروفه العلمية من التفرغ لحفظ لغة العرب، ودراستها، والتمعن في أصولها: فخلافه في لغة العرب مردود إلى تخصص أهل العربية؛ وأكتفي بهذا القدر الآن، وأعِد - إن شاء الله تعالى - بتحقيق دقيق للصحيح، والمحتمل، والباطل في السبتية القادمة، والله المستعان.
مشاركة :