أحمد بلبولة: كتاب الشعر مفتوح متجدد وخطيئتنا الكبرى قتلنا للمجاز | مصطفى عبيد | صحيفة العرب

  • 7/6/2020
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

تاه الشعر في الزحام، وانسحب رويدا من الشارع، وأفل تأثيره. وفي زحمة التجريب وشهوة كسر المألوف وتجاوز المعتاد، بات الشعر المُقفى أو العمودي، كما يحلو للبعض تسميته، مرفوضا من نخب الإبداع باعتباره ماضوي الشكل، ورأى كثيرون أنه يتناقض مع الحداثة ويبتعد عن فكرة التطور اللازمة لحركة الإبداع. “العرب” كان لها هذا الحوار مع الشاعر والأكاديمي المصري أحمد بلبولة حول واقع الشعر. الشاعر المصري أحمد بلبولة، والفائز بجائزة الدولة المصرية للتفوق في الآداب هذا العام، له طرح مناقض مفاده أن الشعر قابل للتحديث دوما، وأن التطوير الحقيقي له ليس في الشكل وإنما في المضمون. وفي حديثه لـ”العرب” يؤكد الشاعر والأكاديمي المصري، أنه من الخطأ الشديد تصور أن الشعر المقفى يساوي الجمود، لأن الكتاب واحد منذ صدح الشاعر الجاهلي بأول قصيدة سواء كان المهلهل أو غيره إلى الآن. تفريط لا تطوير يوضح بلبولة أنه ينبغي على شاعر اليوم أن يدرك أنه لو أضاف سطرا واحدا لكتاب الشعر الخالد، فقد أنجز إنجازا كبيرا، فالقصيدة المقفاة إرث لا يستطيع أن يتعامل معه سوى المؤهلين، ولذلك فإن الكثير ممن يدعون لأنفسهم الحداثة والتطوير لا يقرأون تاريخ الفن الذي ينتمون إليه، وأحيانا يكتفون بانتقاءات تراثية ويلحون عليها. أحمد بلبولة من مواليد مدينة فارسكور، شمال القاهرة سنة 1973، تخرج في كلية دار العلوم، وعين مدرسا بقسم الدراسات الأدبية، وحصل على درجة الماجستير في الشعر الصوفي، ثم حصل على الدكتوراه في الموازنة بين المتنبي وأبي تمام، وعمل بجامعة هانكوك للدراسات الأجنبية بكوريا الجنوبية، قبل أن يعود ليترأس قسم الدراسات الأدبية بدار العلوم. صدرت له أربعة دواوين شعرية هي “رجل يحاول الرجوع إلى البيت”، “طائر الهوملي”، “طريق الآلهة”، “هُبل”، ورواية “سيرة الربيع والخريف”. فضلا عن عدة كتب نقدية ودراسات أكاديمية مثل “جغرافيا القصيدة الأموية” و”المعلقات وصراع التأويل”، وحصل على جائزة البابطين في الشعر، وجائزة أحمد شوقي لأفضل قصيدة شعرية. على شاعر اليوم أن يدرك أنه لو أضاف سطرا واحدا لكتاب الشعر الخالد، فقد أنجز إنجازا كبيرا يكتب بلبولة الشعر العمودي والشعر الحر والقصيدة الكولاجية التي يمزج فيها بين النثر والعمودي والحر، ولاقى الكثير من قصائده اهتمام الجمهور العادي، مثلما حدث مع قصيدته الأحدث “طلل فيرس سي” التي لاقت اهتماما كبيرا على مواقع التواصل الاجتماعي. ويؤكد في حواره مع “العرب”، أنه من الصعب تطوير الشعر دون اعتماد المنجز الجمالي للقصيدة القديمة، والتفريط في الوزن والقيم القصصية والتطريزية وقوانين إطالة النص أدت إلى انحسار جمهور قصيدة النثر. ويرى أن تطوير الشعر لا حدود له، لكن من الضروري أن ينبع من فهم عميق لأسرار هذا الفن، وألا يصل بنا الحال إلى أن يزهو بعض الشعراء بأنهم لا يعرفون النحو أو أنهم يكنون عداء للفراهيدي. في تصوره، الشعراء الذين كانوا يعدون على أصابع اليدين في الماضي، صاروا الآن بالآلاف لكنهم بلا تأثير أو قيمة حقيقية، والتطوير كان ولا يزال ضرورة، والشاعر المصري الراحل عباس محمود العقاد طور في الموضوعات، كما طورت مدرسة “أبوللو” في اللغة، وكانت حركة الشعر الحر أفضل تطوير في الشكل لكنه لم يسقط الوزن. ويتابع “تجاوز فكرة التطوير إلى الدعوة لقتل المجاز وصل إلى تجاهل ما هو فطري في الإنسان، فرجل الشارع البسيط يتحدث بالمجاز، ويؤمن بقيم الاختزال والحذف والإضافة، ولا توجد لغة في العالم لا تستخدم المجاز”. ويوضح أن “قصيدة النثر تفتقر إلى جلال الشعر الذي يحققه الوزن، والوزن اختبار حقيقي للشاعر بصلته باللغة لأنه سر من أسرارها، ومن يخفق فيها فليصمت إلى الأبد، ولذلك أقول إن تطوير اللغة أمر بالغ الأهمية والشعر أحد جنود تطويرها وتهذيبها وتشذيبها”. ويضيف “لك أن تتخيل كم كان الشعر الجاهلي عظيما لأنه بمجموعة من القصائد استطاع أن يثبت مستوى راقيا من مستويات العربية، وهو المستوى الذي نزل به القرآن، وعلى الشاعر أن يمضي في تطويرها”. ويطرح الرجل رأيه بصراحة في كثير من نصوص دعاة كسر كافة القواعد والقوانين الشعرية، قائلا “معظم نصوصهم خابية كابية كليلة توسع قارئها غثيانا واغترابا بمفهوم سارتر، والشعر لا بد أن يكون مصدرا للطمأنينة”. ويعضد تصوره بأن كبار الشعراء المطورين مثل محمد الفيتوري، أحمد عبدالمعطي حجازي، صلاح عبدالصبور، محمد عفيفي مطر، وعبدالعزيز المقالح، لم يسقطوا الوزن في كتاباتهم، واحتفوا بالمجاز بصوره المتعددة، بل إن عفيفي مطر أسس عالمه الشعري كله على الاستعارة، ورفعت سلام اعتبر الوزن إرثا لا بد من استخدامه، كما أن أدونيس نفسه لا يسقط الوزن وإن استبدله بفكرة الإيقاع. ورغم طرحه المناقض لكثير من شعراء النثر، فإنه يرى أن الأمر لا ينبغي أن يكون مغالبة بين تيار وتيار، داعيا إلى السماحة الفنية. يقول بلبولة إن الشعر لم يخب كما يعتقد البعض، لكن القصائد لم تعد تتصدر المشهد مثلما كان الحال في مطلع القرن العشرين، فالثورة المعلوماتية التي نعيشها والفنون التي زاحمت الشعر، كالسينما والدراما، تتصدر الآن المشهد وهو حاضر فيها بتأثيره، ولن يحدث أن يستغني الإنسان عن الشعر، فهو ضرورة حياة له ولا يستطيع أن يعيش بلا عاطفة، وكل مبدع كبير له صلة بهذا الفن. الثورة المعلوماتية التي نعيشها والفنون التي زاحمت الشعر، كالسينما والدراما، تتصدر المشهد، لكن الشعر حاضر ومؤثر فيها ونظرة واحدة إلى التشوه المعماري الذي نراه والتردي الفني والتوحش المجتمعي يؤكد أن غياب الشعر له دور في كل هذا القبح، فالشعر يهذب الإنسان، وإلا لماذا يعده علماء التربية في المشرق العربي أو الغرب الأندلسي قديما وفي مقرراتنا حديثا أساسا من أسس التربية. ويذكر أنه لا تبدو للناس قيمة الشعر في عصر نعاني فيه كلنا من طغيان المادة ونفتقر إلى حالة الأنس التي يصنعها الشعر بامتياز، فقراءة الفلسفة والاطلاع على تجلياتها وروافدها محور أساسي في تشكل وتطور موهبة الشعراء في العالم. ويشير بلبولة لـ”العرب”، إلى أن الشاعر لا بد أن يقرأ الفلسفة بتعمق، لذا فإنه لم يتوقف عن قراءتها منذ الصبا، فهي تعلمنا كيف ننظر إلى العالم والأشياء من حولنا بنظرة نقدية، وكيف نطور أفكارنا الشعرية، ولا ينسى كيف تأثر بكتاب “الزمان الوجودي” للفيلسوف عبدالرحمن بدوي وحلم به يوصيه بكتابه “سيرة حياتي”. جمع النقيضين إذا كان كثيرون يتساءلون عن مدى تأثر شعر أحمد بلبولة بعمله الأكاديمي، فإنه يرى أن ذلك يمثل محنة بلا شك، لكنه يمكن أن يتحول إلى منحة، وكونه شاعرا وأكاديميا له جانبين، أحدهما إيجابي والآخر سلبي، وهو يقرأ ناقدا ما يفيده شعرا، ويبدع شاعرا ما يفيده ناقدا. لكن على الجانب الآخر، فإن الساحة الثقافية، كما يرى، تنظر بريبة للرجل الذي يجمع بين الأمرين، فإن كان وسط النقاد أخرج منهم أو زحزح لمنزلة دون الناقد الخالص للنقد، وإن كان بين الشعراء نظر إليه على أنه ليس خالصا للشعر اعتمادا على مقولة أنك لا بد أن تعطي كلك للشعر كي يعطيك بعضه. ومع ذلك لم ينغلق على الشعر وحده، وناقش روايات كثيرة وكتب عنها كـ”شوق المستهام” لسلوى بكر، وأعمال نوال السعداوي الأدبية، وشارك في أعمال نقدية تخص الفن التشكيلي. بالنسبة إلى أثر توسع مواقع التواصل الاجتماعي في نشر الشعر والتواصل به مع الجمهور، يقول، إن هذا الفضاء الأزرق الآن كأنما وجد من أجل الشعر، فحين ينشر شاعر قصيدة يستطيع المراقب العادي أن يلحظ أن الاحتفاء بها مختلف عن الاحتفاء بشيء آخر، وقد تبدأ دائرة الاحتفاء مقصورة على المهتمين، لكنها ما تلبث أن تتسع، ويتم هذا الاحتفاء بها مقروءة أو مسجلة تسجيلا صوتيا أو مصورة. وحول آثار العزلة عليه كشاعر، يقول “أنا مؤمن بما كان يقوله سارتر، أسكن على سطح الوحدة لكن قريبا من الناس، والعزلة التي أحبذها أن تكون عزلة اختيارية، ومن حسنات جائحة كورونا أنها أعطتنا فرصة أكبر لنعيد ترتيب أرواحنا، لأن الحياة بدت في لحظة أنها أصبحت محمومة وتحترق ذاتيا وتحرق داخلها الإنسان، منحنا كورونا فرصة لالتقاط الأنفاس وتأمل الحياة”. ويلفت إلى أنه شخصيا صار يشتاق للناس أكثر، وسامح خصومه، وبكى على الجاحدين، وكتب قصيدة جديدة بعنوان “وقت القبو” تنشر في ديوانه الذي يحمل عنوان “طلل فيروس سي”. وعن تكريم الدولة المصرية له، يقول إن التكريم مطلب إنساني ضروري جدا، وهو يعطي رسالة طمأنينة للمبدع بأنه على الطريق الصحيح وهنالك من يسمعه ويراه، ويدعم وجوده بين المتخصصين في الفرع الذي يبدع فيه، ويوسع قاعدة جماهيره ونطاق تأثيره، باختصار يعطيه شعورا بأن ما يفعله ليس حرثا في البحر. ويؤكد أن الحب يمثل حالة شعرية خاصة تلهم المبدع وتثري تجربته، وهو شخصيا يفقد كثيرا من شاعريته حين يتوقف عن الحب، قائلا “لا أظن أنني توقفت يوما عن الحب بشكل عام، والشاعر القدير الذي يستطيع أن ينقل الحب من الإنساني للروحي والكوني، وكل تجربة حب حتى وإن لم تكتمل فهي طبقة من طبقات الروح، وبئر عميق بمرور الزمن يغترف منه الشاعر، وخلص ديواني الأول كله لتجربة حب محروم، ثم بعد ذلك أخذ يتطور ويتقلب بين روحانيته وماديته”. ويكشف أحمد بلبولة أنه مفتون بشكل شخصي بالشاعر الكبير محمد الفيتوري، فهو سقف الشعر عنده، ويسعد بالشاعر العراقي عبدالوهاب البياتي، والشاعر اليمني عبدالعزيز المقالح، وفي مصر يعتبر أحمد عبدالمعطي حجازي جده الأعلى الذي يسكن في منطقة وحده، وصلاح عبدالصبور علمه الحزن كيف يكون نبيلا، وتعجبه فتوة فاروق شوشة اللغوية، وفحولة أبوهمام، وضفيرة عفيفي مطر المجازية، وإصرار رفعت سلام على أن يقدم قصيدته الخاصة والثراء المعجمي لدى حسن طلب.

مشاركة :