ثقافة الإقصاء تطارد نجاح النساء في إنتاج المعرفة الطبية

  • 1/12/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

وصف عالم الاجتماع التونسي عبدالرحمن بن خلدون في كتاباته عمل النساء في المجال الطبي بـ”العمل الراقي والضروري للحضارة”، إلا أن المرأة اعتبرت منذ أيام الطب الأولى، نسخا ناقصة من الرجال، حيث شبه الفيلسوف اليوناني أرسطو الأنثى بالذكر المشوّه، واستمر هذا الاعتقاد في الثقافة الطبية الغربية. ومُنع عمل المرأة في المجال الطبي سواء كطبيبة أو جرّاحة على مدار التاريخ وفي أماكن متفرقة من العالم، ومع ذلك فإن عملها بشكل غير رسمي كمساعدة للعاملين في المجال الطبي كان منتشرا على أوسع نطاق. أما الآن فإن أغلبية دول العالم توفر فرص التعليم الطبي لكلا الجنسين بالتساوي، لكنها لا توفر فرص عمل متساوية للجنسين داخل القطاع الطبي. طبيبات.. لكن رجال نظرا للتعتيم على دور المرأة في الطب ورفض تمكينها من فرصة لممارسة المهنة إلى جانب زميلها الرجل اضطرت بعض الطبيبات إلى التخفي في هيئة رجل، حيث أرادت مارغريت آن باكلي أن تصبح جرّاحة لذلك أخفت حقيقتها وادّعت أنها رجل يدعى “جايمس بري” والتحقت كطالب بكليّة الطّب في بريطانيا، وأثبتت جدارتها حيث اجتازت بنجاح اختبار الجرّاحين عام 1813، وحققّت حلمها. واضطرّت باكلي إلى أن تخدم لدى الطّاقم الطّبي في الجيش البريطاني أثناء الحرب، حيث أجرت عمليّة جراحية استثنائيّة منقذة امرأة حاملا ورضيعها معا، ونالت الكثير من التّقدير والامتنان ولم يتم الكشف عن هويّتها إلا بعد مماتها عام 1865. باكلي لم تكن الوحيدة التي تخفت في هيئة رجل لتدرس الطب، القطاع الطبي يعرف أيضا حالة أول طبيبة في أثينا وهي أجونديس والتي عاشت في القرن الرابع قبل الميلاد، ودرست الطب وهي متخفية في هيئة ذكر. ومع ذلك كانت مريت بتاح من أوائل الأطباء في العالم، عاشت في عهد الأسرة المصرية الثالثة نحو 2700 قبل الميلاد. واشتهرت بكونها أول امرأة طبيبة يذكر اسمها وربما تكون أول امرأة في التاريخ تعمل في مجال العلوم. أما بالنسبة للعالم الإسلامي، فإن المعروف عن النساء اللاتي مارسن الطب شحيح جدا بالرغم من أن المرجّح هو مشاركة المرأة الفعالة والمنتظمة في العديد من المجالات الطبية. وتشير بعض كتابات الأطباء الذكور إلى وجود إناث مارسن الطب وعلى سبيل المثال فأبوالقاسم الزهراوي -وهو طبيب وجرّاح مسلم عربي عاش في الأندلس في القرن العاشر الميلادي- ذكر في كتاباته صعوبة قيام الطبيب الذكر بالتعامل مع المريضات الإناث بسبب تحريم التلامس بين الذكر والأنثى في الدين الإسلامي مما يحتم وجود طبيبات إناث أو مساعدات يتلقين التعليمات من الطبيب. ولكن حتى الآن، لم يتمّ تحديد أي أطروحة طبية معروفة كتبت من قبل امرأة في العالم الإسلامي في القرون الوسطى. كما أن الطبيبات مازالن يواجهن أزمة ثقة تجعلهن غير مطلوبات أحيانا، إذ يلفت الانتباه انتشار ظاهرة لجوء العديد من النساء في الدول العربية إلى طبيب أمراض نساء، بدلا من طبيبة بدعوى أن الرجال يتقنون مهنتهم بشكل أفضل من النساء. وقال الباحث التونسي في علم الاجتماع طارق بالحاج محمد في تصريح سابق لـ”العرب”، “قد تواجه الطبيبة الجراحة في بعض الأوساط الاجتماعية الرفض والانتقاد، نظرا لخصوصية هذه المهنة التي يراها البعض منافية للأنوثة والرقة.. هذا النوع من سوء الفهم والمعارضة مرده الثقافة القائمة في المجتمع.. فهي من تقوم بترتيب الأدوار بين الجنسين، كما تحدد وترتب أدوار المرأة والرجل على أساس اجتماعي”. ومع ذاك، تحاول بعض الطبيبات تفادي الاستماع إلى الأصوات المحبطة في أوساطهن الاجتماعية والمهنية، ويوجهن اهتمامهن للعمل من أجل تقويض المعتقدات السلبية الشائعة عنهن وإثبات جدارتهن في المجالات التي اخترنها. المرض من حق الذكور وفقا لمقال غابرييل جاكسون بصحيفة الغارديان البريطانية، قالت الدكتورة كيت يونغ، المختصة في الصحة العامة بجامعة موناش في أستراليا “في جل التاريخ الموثق، استبعدت النساء من إنتاج المعرفة الطبية والعلمية مما خلق نظام رعاية صحية صنعه الرجال للرجال”. ولم يكن التمييز ضد الطبيبات فحسب، بل كان أيضا ضد المريضات، فقد كتبت يونغ في ورقة بحثية نشرت في مجلة “النسوية وعلم النفس” الأكاديمية التي تأسست سنة 1991 “كان خطاب الهستيريا التاريخي مؤيدا في مناقشة حالات النساء اللاتي لم يكن العلاج مفيدا لهن أو اللاتي يحملن تصورا مختلفا عن الطبيب لمرضهن”. وذلك في إشارة إلى اعتماد الأطباء على الروايات التي تدعي “الهستيريا” سدّا للفجوات المعرفية. وأظهرت يونغ في بحثها كيف ينظر الأطباء إلى مريضات التهاب بطانة الرحم على أنهن “أجسام تناسلية ذات ميول هستيرية”. ويعدّ الانتباذ البطاني الرحمي مرضا مؤلما من الناحية الجسدية، لكن آثاره تمتد لتمس الصحة النفسية حيث لوحظ بأنه يزيد من احتمال الاكتئاب. ولم يقل أحد إن التهاب بطانة الرحم ليس مرضا حقيقيا، أو أنه نتيجة لخيال إحدى النساء. ولكن، تنتشر رواية تدعي أن رد فعل المرأة تجاه هذا المرض هستيري. وخاصة عندما تسوء الأعراض بعد العلاج، وهو أمر شائع. وليست هؤلاء المريضات الوحيدات اللاتي تُعاملن بهذه الطريقة. وأجمعت العديد من الدراسات الطبية المنشورة اعتمادا على نتائج أبحاث طبية في دول عدة من بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والشرق الأوسط على أن للثقافة والأدوار الجندرية في المجتمع تأثيرا على نظرة الطب والطبيب لشكوى المرضى من الجنسين المختلفين، وهو ما أدى بالمجتمعات بشكل غير مباشر إلى اعتبار ألم المرأة أقل جدية عند التبليغ عن الألم لدى الطبيب، وأن ألمها ذلك نابع من عاطفة مبالغ فيها أو حساسية زائدة تجاه الألم، وبالتالي يميل الطبيب لا شعوريا إلى عدم تصديق الشكوى في المقام الأول. ففي كتاب «اسألني عن رحمي» بحثت آبي نورمان عن السبب الذي يجعل الأطباء الذكور يكذّبون ألم النساء الجسدي، فقد عانت هذه الكاتبة الأميركية طويلا من التشخيص الخاطئ لمرضها، قائلة «لم يأخذ الأطباء آلامي بجدية» إلا عندما اصطحبت صديقها معها ليؤكد أنها تعاني من آلام أثناء ممارسة الجنس. وكانت نورمان مصابة ببطانة الرحم المهاجرة، وهو مرض مُنهك يسبب آلاما شديدة، بسبب نمو خلايا تشبه خلايا بطانة الرحم في الخارج، وتنتج عن هذا المرض غزارة في الحيض، وآلام مبرحة أثناء ممارسة الجنس وبعده، وآلاما أثناء التبول. ولم تكن معاناة نورمان من المرض في حد ذاته بقدر ما كانت نتيجة للتشخيص الخاطئ الذي اعتمده أطباء اعتبروا أن ما تعاني منه راجع إلى امتلاكها لتاريخ عائلي من المرض النفسي. منذ التسعينات بدأ إدماج المزيد من النساء في التجارب السريرية، لكن الباحثين لم يحللوا النتائج حسب الجنس. وعلى الرغم من التغييرات التي طالت الدراسات السريرية في هذه النواحي، بقيت الدراسات قبل السريرية مركزة على الخلايا والحيوانات الذكورية وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” بدأت موجة انتقادات في المجتمع الغربي منذ عام 2013 بمقال عنوانه “الفجوة ما بين الجنسين في الشعور بالألم”، حيث أشارت في المقال إلى اختلاف التعامل الطبي بين الرجال والنساء في كثير من الجوانب من بينها جرعة الدواء المحددة. وأكدت الطبيبة الأسترالية وجود عدد من الأدلة البحثية حول الطرق التي تم اعتمادها لتعزيز حجج الهستيريا، مشيرة إلى أن أحد الأمثلة يكمن في بعض الرسوم الأولية للهياكل العظمية، حيث رسم فنانو علم التشريح الذكور الوركين أوسع في أجسام النساء عمدا وأظهروا جماجمهن أصغر حجما. وتبدو النماذج المعتمدة كطريقة لقول “هذا هو دليلنا على أن النساء لا يتجاوزن مجرد أجسام إنجابية وأنهن يحتجن إلى البقاء في المنزل ولا يمكننا المخاطرة بجعلهن عقيمات من خلال تعليمهن أكثر من اللازم. انظروا إلى ضيق رؤوسهن”. وكان احتجاز النساء في مصحات نفسية بسبب آرائهن المختلفة عما كان سائدا داخل المجتمع أمرا عاديا. ولم يكن الأطباء والعلماء والباحثون الذكور الوحيدين المهيمنين على المجال البحثي، إذ كانت معظم الخلايا والحيوانات وكل ما تمت دراسته في العلوم الطبية من الذكور أيضا. وجاءت معظم التطورات التي شهدها الطب من دراسة البيولوجيا الذكورية. وتم في أوائل القرن العشرين، اكتشاف جهاز الغدد الصماء الذي ينتج الهرمونات التي تعطي بعضها إشارات للمبيضين والخصيتين لإنتاج الهرمونات الجنسية. وبالنسبة إلى العقول الطبية، كان هذا اختلافا آخر بين الرجال والنساء، وتجاوز الرحم الذي كان السبب الرئيسي لجميع علل النساء. ومع ذلك، استمر الأطباء في العمل وفقا لمبدأ يدّعي عمل جميع الأجهزة والوظائف الأخرى بنفس الطريقة لدى الرجال والنساء، مما يعني غياب الحاجة إلى إنفاق المال والجهد على دراسات مختلفة على الجنسين. وغالبا ما لا يتفطن الأطباء إلى الأمراض التي تظهر بعوارض مختلفة لدى النساء ويساء تشخيصها. وما زالت بعض الأمراض التي تصيب النساء لغزا غامضا إلى اليوم مما يخلّف تأثيرا كبيرا على كل من الممارسات الطبية وصحة النساء. وقالت يونغ إن الطب يُعرّف الأجسام الأنثوية والذكورية بأنها مختلفة ولكنها ليست متساوية. وتكشف تحليلات النصوص الطبية على مر التاريخ أن الجسم الذكوري متفوق وهو النموذج الذي يتم الحكم على الأجسام عبر مقارنتها به. ينظر إلى أي جانب من جوانب الجسد الأنثوي المختلف عن الذكوري أو تلك التي لا يمكن العثور على نظيرها لدى الذكور (مثل الرحم) كدليل على الانحراف”. وأضافت “نظرا لقدرة النساء على إنجاب الأطفال، يربط الخطاب الطبي النساء بالجسد والرجال بالذهن، وبالإضافة إلى تقييد مساهمة المرأة العاملة داخل المجتمع، توفر مثل هذه المعتقدات الدواء مع نموذج قائم على لوم ‘الرحم المتنقل’ على الأمراض التي تصيب النساء”. وتطرق المؤلفون في بعض أقدم الوثائق الطبية التي تصف أعراض الاكتئاب، إلى طرق علاجية اعتمادا على موضع الرحم في جسم المرأة لإجباره على العودة إلى مكانه الطبيعي. ووصف سيغموند فرويد، مؤسس علم التحليل النفسي، أمراض النساء بأنها “في الرأس” وهي نتيجة لصدمات تعرضن لها في مرحلة ما من حيواتهن. أبحاث خاصة بالنساء شكلت مجموعة من العالمات خلال الثمانينات، بالولايات المتحدة تحالفا بهدف شن حملة تدعو إلى إجراء أبحاث طبية أفضل على النساء. وتواصل هذه المجموعة عملها إلى اليوم تحت اسم جمعية “أبحاث صحة المرأة”. وتعاونت الناشطات في المجموعة مع بعض أعضاء الكونغرس لتوجيه الانتباه إلى التناقضات في البحوث الطبية وتأثير ذلك على صحة المرأة وحياتها. ويتجاوز هذا التحيز الذكوري في مجال الطب الأبحاث ويمتد إلى الممارسات السريرية، فمن بين عشرة أدوية طبية موصوفة سحبتها إدارة الغذاء والدواء الأميركية من الأسواق بين سنتي 1997 و2000 لما تسببه من آثار جانبية خطيرة، تسببت ثمانية منها بمخاطر صحية كبيرة على النساء. وخلصت دراسة أجريت سنة 2018 إلى أن هذا يرجع إلى جملة من “التحيزات الذكورية الخطيرة في البحوث الأساسية قبل السريرية، والأبحاث السريرية”. وفي سنة 1993، فرضت إدارة الغذاء ومعاهد الصحة الوطنية الأميركية إدراج النساء في التجارب السريرية بعد أن كانت تعتمد سياسة تستبعد النساء اللاتي يتمتعن بالخصوبة من تجربة الأدوية. وبدأ منذ التسعينات، إدماج المزيد من النساء في التجارب السريرية، لكن الباحثين لم يحللوا النتائج حسب الجنس. وعلى الرغم من التغييرات التي طالت الدراسات السريرية في هذه النواحي، بقيت الدراسات قبل السريرية مركزة على الخلايا والحيوانات الذكورية. وغالبا ما تستند السياسات والممارسات التي تتحيز للذكور على حجج تدعي أنها مصممة لحماية النساء من أضرار البحوث الطبية.ولكن كل ذلك لم يمنع الطبيبات من تقديم أفضل رعاية صحية للمرضى، وهذه الحقيقة دعمتها العديد من الدراسات التي أظهرت أن الوفيات بين المرضى الذين تعالجهم الطبيبات أقل من الذين يعالجهم الأطباء. كما أن إحصائيات نشرت في العام 2017 ذكرت أن ذاك العام سجل تفوق أعداد النساء الطبيبات على الرجال الأطباء لأول مرّة في التاريخ. وأثبتت العديد من الطبيبات العربيات جدارتهن في الانضمام إلى القطاع، حيث فازت الدكتورة المغربية رجاء غانمي، في العام 2014، بلقب أحسن طبيبة عربية في العالم، لتكون بذلك أول عربية في العالم تحصل على هذا اللقب الذي توجت به من بين الآلاف من الأطباء العرب المشاركين في التظاهرة الدولية التي نظمتها مجموعة “ذي أرابس غروب”. وكانت الراحلة توحيدة بن الشيخ أقدم وأول امرأة طبيبة في العالم العربي وعميدة الأطباء في تونس، قد برهنت على قدرتها وكفاءتها في مجال صعب كالطب، وأثبتت للمجتمعات العربية الذكورية أن المرأة قادرة على الدفاع عن حقوقها وحقوق مجتمعها. وعمل الطبيبة مريم مطر المستمر والناجح جعلها تحتل ولمدة سنتين متواليتين المرتبة الرابعة في الوطن العربي ضمن أنشط الباحثين وكأقوى امرأة إماراتية في العلوم والبحوث.

مشاركة :