من المداخل الرئيسة لصياغة التحقق، داخل الفن المعاصر، قدرة الفنان على الإقناع المعنوي، وتقديم خطاب بصري ولفظي متجانس. إذ لا يمكن أن نتحدث عن عمق في غياب القدرة على بيان حدوده، واستيضاح تجلياته، وإخراجه إلى السطح. وهي المهمة التي ليست موكولة إلى الآخرين، نقادا كانوا أو قيمي معارض، أو صحافيين، حتى لو تعلق الأمر بفنانين فطريين. غياب القدرة عن التبيين هو مرادف لافتقاد العمق نفسه؛ إذ لا يمكن أن ننجز لوحات ومنحوتات وتجهيزات مفعمة دلالة بالصدفة، ولا يمكن تشكيل خطاب بصري مقنع وشديد الرمزية دونما إدراك لخطورة المنجز، أو بغير قصد، فمعاناة الفنان المعاصر مع الأداة والشكل والإطار هي في الجوهر معاناة مع اللغة أيضا، التي لا تشكل معنى أصيلا وفريدا وحقيقيا عبر اللعب بالكلمات. لا جرم إذن، أن يكون الانطلاق من قاعدة اللون والمادة والكتلة والمساحة في صيغ “معاصرة”، غير منفصل عن جوهر الوعي بالأزمة “المفترضة” للوسيلة، وهو وعي لا يمكن أن يكون بغير جوهر ثقافي، يتمثل محدودية الصيغ السائدة والمتراسلة من نقطة كونها تحد من طاقة التعبير الحر، ومن ثم يتطلع إلى تخطيها، وتجاوز ما يرتبط بها من رهانات. ذلك على الأقل ما يجب استيعابه في واقع عربي لم ينجز حداثته الثقافية بشكل متوازن بين الأجناس التعبيرية المختلفة، من الشعر إلى الرواية إلى السينما إلى المسرح والتشكيل.. حيث برزت على الدوام تفاوتات موحية، بأعطاب راسخة في منظومة الثقافة جامعة. وفي مقطع شديد الدلالة أورده محمد بنيس ضمن مقال صدر قبل أزيد من أربعة عقود حمل عنوان “من قضايا تجربتنا التشكيلية”، يقول ما يلي “أغلبية فنانينا التشكيليين، باستثناء مجموعة محدودة تعد على رؤوس الأصابع، تهمل الجانب الثقافي من حسابها الذاتي. وقد نشعر بإحراج عندما نريد فتح نقاش مع بعض الفنانين المغاربة، ونكتشف خواءهم الثقافي. وهذه الخاصية تلعب دورا.. في خلق مأسوية فنوننا التشكيلية، إن بعض الفنانين الشباب يحملون القماش والفرشاة والألوان دون أن يتساءلوا عن نوعية الكتاب الذي سيقودهم في جحيمهم”. ورد هذا المقال ضمن العدد السابع (الصادر في ربيع 1977) من مجلة “الثقافة الجديدة”، الذي شكل مع العدد 6-7 من مجلة “أنفاس”، أولى الأدبيات النقدية والنظرية عن واقع الحركة التشكيلية في المغرب، والحال أن هذا العدد ذاته يضم مقالات كل من الفنانين: محمد شبعة ومحمد المليحي وفريد بلكاهية ومحمد القاسمي، جنبا إلى جنب مع كتابات نقدية لعبدالكبير الخطيبي وأدمون عمران المالح وطوني مارياني وآخرين.. عن التجربة التشكيلية المغربية وأعطابها ومطامحها الفنية والجمالية. وربما كانت مقالات هذه المجموعة، تمثل تلك القلة التي استثناها محمد بنيس، في مقاله الواصف لحالة صادمة، ما لبثت أن تفاقمت، بالموازاة مع (ويا للمفارقة) اتساع قاعدة الممارسة الفنية بالمغرب، بحيث برز للوجود تدريجيا فنانون بغير أهلية معرفية، ولا رصيد ثقافي، وبملامح “خواء” متفاوت، قد ينحصر في مظهر أول في الاتكال على المهارة والمعرفة التقنية، وقد يمتد إلى الاكتفاء بتفاصيل سطحية من تاريخ الفن، لتبرير الاختيار والسعي إلى تفسير العمل البصري. والحال أن تعقيد المنجز يتعارض مع التبسيط المعرفي وما يستند إليه من تحليل، فيبدو أشبه ما يكون بارتجال فني يخلو من أي رؤية. ويمكن ربط “الإعاقة النظرية” في هذا السياق بالمشهد الثقافي، وما تخلله في مرحلة ما بعد السبعينات من القرن الماضي من تفتت طاغ، أفضى إلى انعزالية مرضية لمبدعي الأجناس التعبيرية المختلفة بعضهم عن بعض، بحيث بات نادرا أن تجمع قضايا جمالية موحدة، وأسئلة ذات جوهر فكري، مبدعين من شتى الاختيارات التعبيرية اللفظية والبصرية، (في التصوير والنحت والرواية والمسرح والسينما والشعر…) إلا ضمن هوامش بالغة الضمور. من هنا ينبغي إنعام النظر في طبيعة تطور الوعي الفني، وانخراطه في الأسئلة العامة التي شغلت الثقافة، من إعادة إنتاج النموذج المدرسي الغربي، إلى الوعي بالتراث والحداثة والآخر والأسلوب… وهي كلها مفاهيم تسكن جوهر الممارسة الثقافية في شتى تجلياتها. إنها المعرفة التي تورط الباحث في واقع الفن المعاصر بالمغرب ضمن مآزق غياب الخطاب الجمالي الموازي لتخمة الإقامات الفنية والمعارض، وموجات البيع، والتزكية لأعمال وتجارب تشكيلية سرعان ما تنطفئ، وتنمحي من الذاكرة؛ ليس لأنها لم تكن جذابة وأصيلة حقا، وإنما لأنها انطوت، في العمق، على هشاشة فكرية قاتلة.
مشاركة :