الزهايمر يا «نبيل البسّام» يسحق ذاكرتي

  • 5/27/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

«سعادة الأستاذ نبيل البسام المحترم.. أبعث هذه الرسالة لك؛ لأن لي مدة من الزمن لم أعد أعرف كم عمقها وأنا قارئٌ حريصٌ لك، وأتابعك جيدا. وقد قرأت علي ابنتي سكينة (الاسم ليس الحقيقي) مقالك السبت الماضي بجريدة الجزيرة عن تفجير القديح، وقد طلبتُ من ابنتي أن تقرأه لي مرارا وتكرارا، فقد أبكاني كثيرا، ثم إني أطلب من ابنتي أن تقرأه لي مجددا وكأني أبحث عن الحزن، وكأن بي متلازمة بكاء لا بد أن أروي عطشها. أنا في المستشفى حاليا كما ترى في توقيعي في آخر الصفحة، ولا أتعامل مع النت مطلقا، ولم أدخل عالمه أبدا، وطلبت من ابنتي الدكتورة سكينة أن تعطيني قلما وورقة لأكتب لك هذا، وأنا حريص على أن يصلك شخصيا.. بيدك، لا بيد غيرك. إني كتبت هذه الرسالة بخطي المرتعش كما تراه الآن؛ لأني لا أستطيع أن أكتب سطرين بدون أن تُرهَق ذاكرتي وتتقطع أوصال أسلاك الكهرباء في دماغي، تلك التي تنقل الومضات معلومات. فتضطر ابنتي أن تعيد إنعاش ذاكرتي؛ لأني أكون متحمسا لكتابة الرسالة ثم أنساها ولكن تبقى الحماسة لشيء لا أدري كنهه، وتعرف ابنتي أنها الحماسة لاستكمال الرسالة. ربما خمنتَ، بما أعرف عن نباهتك -وأيدتني ابنتي على ما أظن- أني مصاب بعلةٍ برأسي، وهذا صحيح، فأنا أعاني من الزهايمر الذي بدأ يبطش بدماغي ويسحق ذاكرتي.. والتشبث بالعقل صراعٌ كابوسيٌ لا يمكن أن يتصوّره من لا يعانيه. المهم قلت لك لقد قرأت مقالك عن تفجير القديح، أو بالأحرى قرأته لي ابنتي الوحيدة الدكتورة سكينة.. وتألمت كثيرا وبكيت -أظن أني سبق أن قلت هذا؟- ولأول مرة تمنيت أن يسرع الزهايمر في نزع ما بقي من ذاكرتي كي.. أرتاح. أظن بالأمس قيل لي أن أحد أبناء أخي تأثر بحرب اليمن وأظنه جندياً أو ضابطاً، أو أنه أصيب.. وأعرف أني كنت سأموت حيّا من الحزن لو كنت بذاكرتي الطبيعية. أنا لست عجوزا جدا، ودرست الطب أظن أن تخصصي النيورولوجي فياللمفارقة. ولكنه الزهايمر يسحق ذاكرتي.. أم أني قلت لك هذا؟ّ ملاحظة: سكينة لا تعلم ما بالخطاب، فلا تخبرها. انتهى الخطاب. بكيتُ أكثر من صاحب الرسالة، فهو يخاطبني وأنا نجيب الزامل ولست نبيل البسام، ثم إني كتبت المقال هنا بجريدة اليوم وليس كما ارتبكت ذاكرته بجريدة الجزيرة. وهو يقول إن الدكتورة سكينة ابنته الوحيدة، بينما عرفت أنها واحدة من باقة بناتٍ وأولاد. ذهبت للمستشفى لزيارة صاحب الرسالة، وكان نائما، فلم أجلس معه. إلا أن طبيبه أكد لي أن ما كتبه لي مدهش حقا، فيبدو أن هول الفاجعة في القديح ومصاب ابن أخيه الجندي بعاصفة الحزم أيقظت كمّا هائلا من ذاكرته، ومن قواه العقلية المدرِكة. أبو سكينة علمني درسا واقعيا -وإن كنا نظن العكس لأول وهلة- أن الأمة مثل الأشخاص تصحو عقولها في وقت الكوارث الكبرى.. لتبدأ بالتفكير أفضل لتجنب كارثة أخرى. وعندما أقرأ في تاريخ الكوارث أجد أن أمما نهضت بعدها.. وكأنه، للأسف، لم يكن هناك وسيلة لتنهض كما نهضت.. إلا بتلك الظروف. سيبقى الحزنُ، وهذا ليس بيدنا. وسيبقى التفكيرُ العاقل.. وهذا بيدنا.

مشاركة :