تستقبل المساجد والمصلّيات الجزائرية نحو 20 مليون مصلّ أسبوعيا، في أكثر من 30 ألف مسجد تقع في غالبية أحياء وضواحي وقرى محافظات البلاد، لأداء صلاة وخطبتي الجمعة، إلا أن الخطاب الموجه لهؤلاء لم يجد نفعا في توجيههم في حياتهم اليومية، بسبب افتقاده لأبجديات الخطاب في الشكل والمضمون، ولم تعد الرسائل تتعدى عتبة المنبر الذي يلقى فيه الخطاب. وتجلّى ذلك في عدد من الحوادث التي عاشتها مساجد جزائرية في مدن عنابة والعاصمة وبجاية، عندما تجرّأ بعض المصلين على قدسية المكان وانتفضوا على بعض خطب الأئمة، أو انسحبوا من الصلاة الجماعية أصلا، احتجاجا على انحياز الأئمة لقطب السلطة وانخراطهم في حملات تشويه الاحتجاجات الشعبية ضد السلطة، عبر توظيف النصوص الدينية والرصيد الروحي لخدمة غرض معين. ورغم تشديد الحكومة على تحييد المساجد عن الخطاب السياسي والدعاية الأيديولوجية، إلا أنها لا تتوانى، من حين لآخر، في توظيفها لأداء مهمة معينة لاسيما خلال الاستحقاقات الكبرى، على غرار الانتخابات التي كان يتجاهلها الجزائريون كتعبير منهم عن الأداء السياسي للسلطة، خاصة خلال العشريتين الأخيرتين. وتحولت المؤسسات المذكورة إلى منصة دعائية خلال الأشهر الأخيرة من أجل إجهاض انتفاضة الشارع المفاجئة، من خلال توظيف الأحكام التي تحرم التظاهر والخروج عن الحاكم، والحفاظ على أمن واستقرار البلاد، وتم حينها الاستعانة بفعاليات التيار السلفي الذي دخل في خصام مع الشارع، لاسيما على شبكات التواصل الاجتماعي. وتفادت النقابة المستقلة للأئمة وموظفي قطاع الشؤون الدينية، الدخول في نقاش الخطاب المسجدي ودور الوصاية في توجيهه، بينما انصب اهتمامها على المسائل المهنية والاجتماعية، ومع تهديدها بالخروج إلى الشارع كبقية الفئات الاجتماعية الأخرى للاحتجاج، إلا أنها لم تدرج مسألة الخطاب وضغوط المؤسسات الرسمية في لائحة مطالبها. وإذ ورث المسجد الجزائري مسألة الدعاء للحاكم منذ السنوات الأولى لنظام الرئيس السابق عبدالعزيز بوتفليقة، فإن وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، تحولت إلى رئيس تحرير مركزي يوجه مضمون الخطب المسجدية، خاصة في المناسبات الكبرى التي تحتاج فيها السلطة لمشاركة المجتمع. رغم تشديد الحكومة على تحييد المساجد عن الخطاب السياسي والدعاية الأيديولوجية، إلا أنها لا تتوانى، من حين لآخر، في توظيفها لاسيما خلال الاستحقاقات الكبرى وكانت الجمعة التي أعقبت دفن القائد السابق لأركان الجيش الجنرال أحمد قايد صالح، قد كُرّست لـ”الإشادة والتنويه بشخصية وماضي الرجل ودوره في المرحلة الحرجة من تاريخ البلاد”، وذلك بناء على تعليمات صادرة عن الوزارة الوصية، اطلعت “العرب” على نسخة منها، ما كرس تناقض خطاب السلطة في مسألة تحييد الخطاب المسجدي مع الممارسة الميدانية. ولأن السلطة كانت تدرك حساسية الإمام ودوره، فقد وضعته في نفس المقام مع رجال الإعلام، في التعديلات التشريعية التي أُدرجت في القانون الجزائي الأخير، وتم التضييق على الطرفين بإجراءات ردعيّة تدخل في سياق جرائم الحق العام، ومع ذلك لم تجن ثمرة وضع يدها على الإمام والمسجد، كما جنتها بوضع يدها على قطاع الإعلام التقليدي. وكما وجد رجال الإعلام والمؤسسات الصحافية المحلية أنفسهم في فوهة الغضب الشعبي، فإن الأئمة لم يسلموا من استياء الشارع الجزائري، وبات الإمام محل تهديد متعدد الجوانب، فبعد الضغوطات والاعتداءات التي تعرض لها بعضهم في عدد من المساجد، من طرف متطرفين دينيين في تيارات أخرى، تحول الوصف الشعبي الساخر “إمام الحساب البريدي الذي ينتظر الراتب الشهري” (أي الإمام المأجور)، إلى تلميح لشراء ذمم هؤلاء ويمر الخطاب المسجدي بأزمة ثقة عميقة في الجزائر، شأنه شأن مختلف الوسائل الدعائية الأخرى، بسبب هيمنة مقاربة السلطة والانحياز الدائم للمؤسسات الرسمية، بينما يتطلع الشارع الجزائري إلى خطاب متوازن يدعم إرادة الجزائريين في إحداث التغيير السياسي الشامل بالبلاد. وفيما راهنت السلطة الجزائرية منذ سنوات على تقوية التيارين الصوفي وحتى السلفي في البلاد، من أجل الوقوف في وجه التيارات الدينية المتطرفة، خاصة تلك التي تتبنى الفكر الجهادي كخط سياسي للتغيير، إلا أن نفس الرهان يستمر الآن مع التيارين المذكورين، لإفراغ ثورة الشارع وتفكيكها. وتجلت المسألة بشكل واضح في حملة تحريم الخروج عن الحاكم والتظاهر والتحزب وانخراط المرأة في الاحتجاج السياسي، التي شنها السلفيون خلال الأسابيع الأولى من عمر الحراك الشعبي، كما لم تتوانَ المؤسسات الموالية للتيار الصوفي في المرافعة عن الأمن والاستقرار وعدم معاداة الحاكم، الأمر الذي حول المساجد والمؤسسات الدينية إلى ساحات تنافر بين المؤطرين الرسميين وبين الفاعلين في الثورة السلمية. واستفادت السلطة من تماهي الفكر السلفي مع توجهاتها في تجاذب الرؤى السياسية حول الأزمة التي تعيشها البلاد منذ نحو عام، حيث ضمت مناصرا دينيا ودعائيا في صراعها مع ضغط ثورة الشارع، ليضاف بذلك إلى غالبية المساجد والمؤسسات الدينية الواقعة تحت وصاية الحكومة، مما جعل الخطاب شبه موحد في الظاهر، لكنه في الباطن عمّق أزمة الثقة بين الشارع والمؤسسات الدينية.
مشاركة :