استعادت مسرحية “البخيل” رائعة الكاتب الفرنسي موليير بمعالجة فنية جديدة، برزت فيها قدرة مسرح الشباب على قراءة صفحة الحاضر المجتمعي المأزوم في ضوء نص كلاسيكي. وقدّمت فرقة مسرح الشباب بالقاهرة رؤية كوميدية استعراضية فانتازية لمسرحية “البخيل” التي كتبها موليير منذ أكثر من ثلاثمئة وخمسين عاما، وتعد من معالم المسرح العالمي. لجأت المسرحية في ثوبها المصري الحديث، إلى الثيمة الإنسانية العامة، غير المتقيدة بزمان ومكان محددين، فهي مهمومة بقضايا البشر والأزمات المشتركة التي تجمعهم في مجتمع صغير، هو “بيت البخيل هرباغون”، الذي جرى اتخاذه رمزا للمجتمع الأكبر، بكل ما فيه من علاقات متشابكة ومعقدة، وصراعات طبقية. المسرحية من إعداد وإخراج خالد حسونة، وديكور رانيا الدخاخني، وملابس ناردين عماد، واستعراضات شيرلي أحمد، وأشعار حامد السحرتي، وموسيقى محمد حسني، وقد تناولت طغيان القيم المادية والحياة الاستهلاكية في الواقع الحالي، وافتقار البشر إلى إنسانيتهم الحقيقية وكنوز السعادة الكامنة في النفوس. ونسج العرض، الذي لعب بطولته أشرف طلبة وسوزان مدحت ومحيي الدين يحيى ومحمود متولي ونشوى عبدالرحيم وجاسمين أحمد وغيرهم، من خلال التصعيد الدرامي المتنامي ومجموعة المواقف والمفارقات، معالم كون سحري فسيح، مبني على الحب الصافي المنزّه عن الأغراض، كبديل عن العالم الضيّق المنهار. الهزل الراقي على غرار ما أسّسه موليير في هذه المسرحية ومجمل أعماله ذائعة الصيت، جاء العرض المصري ملتزما بأبجديات المسرح الشعبي والهزل الراقي، بمعنى تبني مفاهيم بسيطة سلسة وأفكار غير نخبوية، وإشاعة أجواء من الفكاهة والمرح، والتركيز على المشاعر الجياشة والعلاقات المباشرة بين البشر، التي تكشف ذلك التضارب بين الخصال الحميدة الطيبة، والأخرى البذيئة البغيضة. وجاء الإطار العام للمسرحية كوميديا خفيفا، ومفعما بالحركة والحيوية والبهجة والعشق والأمل والابتسام، كأسلحة لا تعطب ولا تنفد أبدا، يمتلكها الشباب في مواجهة كل ما هو قديم قد ورث من العادات البالية والتقاليد المهيمنة والسلطات الأبوية الممثلة بالشخصية المركزية “هرباغون البخيل” التي شكّلت محورا دارت حوله الأحداث كلها. أكسبت الكوميديا شخصية البخيل أبعادا كاريكاتيرية، فهو منخرط تماما في السعي إلى الكسب المادي واكتناز الأموال بكل السبل المتاحة، وبلغ به الأمر درجة الهوس والمرض النفسي، حتى أنه أبى حفظ ثروته في خزانة، خشية سرقتها، وقام بدفن ليراته الذهبية في حديقة القصر، ليحرم الجميع منها حتى أبناءه، وامتنع عن دفع مرتبات العاملين لديه من موظفين وخدم وطباخين وغيرهم. وشكلت علاقات البخيل بكل من حوله من البشر مادة للتندّر والسخرية من بخله النادر، وأيضا من شكله الجسماني المثير للضحك، بالحرص على التصابي لاستمالة النساء، والشعر المصبوغ، و”الكرش” الممتلئ، وقد صارحه سائقه الخاص ذات يوم بما يقال عنه، عندما فاض به الكيل “الناس عاملينك مسخة (الناس يتندّرون بأفعالك)”. لم يتوان البرجوازي الثري عن الاتجار بكل شيء، حتى قلوب المقربين إليه، إذ حاول دفع ابنه وابنته إلى الزواج من أرملة مسنّة ورجل عجوز طمعا في أموالهما، لكن الابن والابنة كان لهما رأي آخر، إذ زهدا في أموال الأب، ودافعا عن عشقهما لفتاة وفتى من الطبقة الفقيرة، واضطر الابن إلى سرقة أموال الأب ليساومه على موافقته على الزواج من حبيبته. ومع تصاعد الأحداث في اتجاه الأسطورة والفانتازيا، يتضح في نهاية العرض أن الشاب الراغب في الزواج من ابنة البخيل، والذي ارتضى العمل في بيت البخيل خادما ليبقى بالقرب من حبيبته، هو ابن “دون” إيطالي ثري، وأن أخته هي الفتاة التي يود ابن البخيل الزواج منها، وكلاهما مفقود منذ الصغر في حادث تحطم مركب، وعندما يعلم البخيل الحقيقة؛ “الدنيا أسرار”، يوافق على الزيجتين، وتنتصر إرادة العشق في “لعبة الأقدار”. مرونة وانسيابية راهن عرض “البخيل” في ثوبه المصري على أمرين؛ الأول: الضحك من أجل الضحك كغاية بحد ذاته للإمتاع والتشويق والجذب، من خلال المواقف والتناقضات والاستفادة من خفة ظل الفنانين وأدائهم التمثيلي القائم على احترام النص المكتوب دون إهدار الارتجال التلقائي في أضيق الحدود. والأمر الثاني: رشاقة العناصر المسرحية وانسجامها وتناغمها البصري الصوتي الحركي، بما نجح في تخليق متعة التلقي على سائر المستويات، بعيدا عن الفكرة المسطحة، التي لم تكن أكثر من نقطة انطلاق، للاشتغال الفني على جزئيات التوليفة المسرحية بمرونة وانسيابية. هذه المسرحية ليست مادة للحكي، فأوراقها سيناريو بريء إلى حد السذاجة، وإنما هي حصيلة ما يتلمسه المشاهد على المسرح من وجبة خفيفة ومشبعة في آن، توفرت لها سمات الإقناع، من الديكور الأرستقراطي في القصر الفخم، والملابس الملائمة للشخصيات وفق انتمائها الطبقي، و”موسيقى زوربا” المصاحبة للرقصات والاستعراضات المعبرة عن حالات العشق التي غزت القصر. وأضفت آلات الأكورديون والساكسفون والكمان والقيثارة والطبول أجواء التفاؤل والبهجة على العرض المتمرّد على كل القيود، المتمثلة في شخصية الأب، رمز النفوذ المالي. شكلت الحركة بهجة إضافية وحيوية بصرية من خلال الاستعراضات الكثيرة غير النمطية، ومنها استعراض تنظيف العمّال للقصر الكبير بالمقشّات، واستعراض الطهو الذي قام به طباخو القصر لإعداد وليمة عائلية تحمّل الأبناء نفقاتها رغما عن الأب البخيل، وغيرها، بالإضافة إلى الرقصات الفردية والجماعية، والتعبير الجسدي والإشاري والإيمائي. سخر العرض من السلطة ممثلة في رجل الشرطة، المكلف بالتحقيق في واقعة سرقة ليرات البخيل الذهبية من الحديقة، ظهرت هذه السلطة تابعة منقادة إلى إرادة الرأسماليين، لديها الرغبة الجاهزة في تلفيق الاتهامات للفقراء والمقهورين، والتنكيل بهم، لكنها في حقيقتها سلطة وهمية هشة، لا تصمد في نهاية المطاف أمام الحقيقة وإرادة الشعوب.
مشاركة :