في سجل الموت العراقي الكبير صارت نسقية الغياب هي العادة في مجتمع ثقافي محاصَر من الجهات كلها. خاصة عندما تكون الثقافة وجها من وجوه التحرر والعلمانية الإيجابية الداعية إلى وطن يسوده الجمال والفن والأحلام الإنسانية المشروعة. ولذلك فإنّ مثل هذا السجل في مدونته اليومية لا يزال مفتوحا على الجريمة الثقافية التي غيّبت الكثيرين من الشعراء والروائيين والإعلاميين ولا تزال جارية حتى اللحظة. ومن هذه المدوّنة القاسية يتجدد اسم الشهيد الروائي علاء مشذوب لمناسبة سنويته الأولى التي غاب فيها -قسرا- عن هذه النسقية الاجتماعية والأدبية. فقبل سنة اغتيل الروائي أمام داره في واحدة من أبشع الجرائم اليومية التي مارستها الميليشيات الطائفية بحق مواطنيها ومبدعيها. يومها كان حدثا جللا على المستوى المحلي والعربي ومنظمات حقوق الإنسان العالمية التي كشفت عن هذه الانتهاكات التي تطال المبدعين. كان يمكن أن يكون مقتل هذا السارد المبدع نقطة بث واسعة النطاق لحماية أصحاب الأقلام الحرة من مجرمي الطائفية الدخيلة على البلاد والعباد، والميليشيات المسلحة التي هيمنت على متن الساحة السياسية وسيرتها إلى أهدافها الطائفية الضيقة؛ غير أن تواطؤ الحكومة ومَن معها من العناوين الخارجية المعروفة حالت من دون أن يكون لهذا الفعل الغادر أهمية تُذكر. بل استمروا في محاربة الجمال؛ بعد مشذوب؛ وقتلوا الكثيرين ممن يحملون سلاح الكلمة الوحيد من ناشطين وإعلاميين وأدباء وصحافيين وأكاديميين. لاسيما مع انتفاضة الشباب التي دخلت شهرها الرابع بشجاعة وصبر وحكمة متقدمة على الأعمار. حيث تكشفت الأوراق مرة واحدة وتم فرز الأطراف المسلحة التي تغتال مثقفي العراق. ومن بينهم قتلة الروائي علاء مشذوب. مشذوب لم يكن أول المسجلين أسماءهم في مدوّنة الموت المجانية التي تجري في الوطن. ولا آخر الراحلين عن مشهد الحياة العراقية في سردياتها المثيرة للأسى؛ لكنه كان أحد الذين يواجهون هذه المدوّنة بضمير يقظ وشهادات صادمة قالها في أكثر من مناسبة وأكثر من رواية وشهدت صفحته الفيسبوكية الكثير من الآراء التي لا يتقبلها الآخر، فهو دائم النقد لإيران وتدخلها في العراق. حتى أنه ذات كتابة انتقد فيها آية الله الخميني ليضع نفسه هدفا مباشرا للمتطرفين القتلة، ممن يتقنون لغة السلاح الكاتم والمسموع. لذلك دفع حياته ثمنا ليكون في النهاية شاهدا حقيقيا في مرثاة البلاد الكبيرة. بعد أن كان شاهدا جانبيا للجريمة. الثقافة العراقية هي الحلقة الأضعف في هذا الميدان الناري المستمر منذ ست عشرة سنة وحتى اللحظة وعليه فإن مقتل علاء مشذوب بـ”إخراجه السينمائي جدا”، وقد جرى في زقاق ضيّق ومن على دراجة نارية، كان علامة من علامات خسة الآخر المنطوي تحت راية دينية متطرفة وافدة من خارج مدينة كربلاء، مشارِكا في الجريمة؛ لتكتب صفحة دموية من صفحات الغدر التي تتستر تحت غطاء ديني غير قادر على المحاورة والحوار في جدلية الحياة العراقية المعقدة. وبالتالي فإن القتلة الأميين الذين أطلقوا رصاصهم على جسد مشذوب لم يصيبوا روحه بالضبط. والدليل أنّ رواياته بقيت حية وذكراه غير ملتبسة علينا. وحضوره الأمين شاخص على مدار الوقت محليا وعربيا. ليكون أيقونة في مدونة الموت الكبيرة. علاء مشذوب كان ضحية وضع سياسي ملتبس جدا. وضحية تطرف ديني سلبي هوائي متعصب بلا متن فكري جدي ، ومنفذو الاغتيال هم ضحية بالنتيجة لذلك التطرف الأعمى، لأنهم ببغاوات شعاراتية وممسوخون إلى الحد الذي صار القتل عندهم مهنة دينية قذرة. ومثل هؤلاء لم ولن يعرفوا مشذوب ولم يقرأوا له حرفا ولم يستوعبوا أن مقتله بتلك الطريقة الفجة كان إيذانا لصحوة جماعية لمعاينة الخطر الوافد من خارج مدينة كربلاء، لتضييق مساحة الدم ومحاصرة الموت المجاني الذي تطلقه كواتم الصوت في سردياتها الحمراء التي لا تزال تنال من مثقفي ومتعلمي وصفوة أدباء البلاد. ومع هذا التحوط الشامل إلا أن القتلة لديهم السلطة والمال والسلاح والوقت والحيلة والغدر. مثلما يملكون القرار الأخير بعيدا عن الدولة ومنافذها الرسمية والأمنية. وبالتالي فإن الثقافة العراقية هي الحلقة الأضعف في هذا الميدان الناري المستمر منذ ست عشرة سنة وحتى اللحظة. والمثقفون عموما هم الأكثر ضررا من هذا التعامل الدموي الذي أطاح ويطيح بالكثير من شواهدنا الثقافية والأدبية والفنية والإعلامية. مشذوب الذي لم يفارق كربلاء سرديا في كتاباته الروائية كان يوزع شذرات المدينة التاريخية على بقعة أوسع منها لتشمل الوطن في اتساعه الجغرافي والتاريخي والمدني الذي كان عليه، لذلك كان يستدعي شخصياته ذات العمق المعرفي والمديني وهي تناور الحاضر بخلفية الماضي السعيد الذي كانته كربلاء قبل أن يستحوذ عليها ذيول الطائفية، ومثلما كانَهُ العراق كبلد يضم أطياف المجتمع الدينية والطائفية والأقليات المهمشة. وما العنونة في رواياته إلا تأكيد على هذا الوصل الإنساني والثقافي في مسحه العام للبلاد وما اختزنته من آثار معرفية وثقافية ودينية. ومن ثم نستطيع أن نقرأ حجم الألم في استعادة الماضي الرصين بدءا من “فوضى الوطن” (2014) وهو عنوان شارح. ثم “انتهازيون ولكن” (2016) بتوصيف الحالة السياسية والاجتماعية، لتأتي بعدها “جمهورية الخان” (2018) وهي محلته التي قُتل فيها حتى “شارع أسود” (2019) بنبرته المتشائمة ولونه الحزين، وصولا إلى “مدن الهلاك” (2019) و”شيخوخة بغداد” (2019) كنبوءات لا واعية أنهت مشواره مع الحياة والثقافة بوصفها الحي. لذلك فإن مشذوب المبدع/ الضحية التمع اسمه قبل مدونة الموت الكبرى/ لكنه شاء ألا يبتعد عنها كثيرا. فجاورها وحاورها ليكتب سرديات الوطن الجريح في روايات اكتمل بعضها ولم يكتمل البعض الآخر. في حين بقي الآخرون يكتبون بكثير من التشكك والالتباس.. لكن لا تزال المدوّنة مفتوحة.. للأسف!
مشاركة :