منذ دخول الحوثيين العاصمة صنعاء في الحادي والعشرين من سبتمبر/ أيلول العام الماضي، بدأت أعداد كبيرة من اليمنيين بالنزوح إلى خارجها، هرباً من البطش الذي مارسته ولا تزال تمارسه جماعة الحوثي، في حق معارضيها وخصومها السياسيين والدينيين، ووجد الكثير منهم ضالتهم في القرى الريفية التي يتحدرون منها، والتي هجرها بعضهم مفضلاً الإقامة في عواصم المدن الحضرية، فيما أبقى البعض الآخر على علاقة بها من خلال الزيارات التي يقوم بها إليها في المناسبات المختلفة، مثل الأعياد الدينية وغيرها من المناسبات. وعندما زاد ضغط الحوثيين على السكان، وخاصة معارضيهم السياسيين من خلال الاعتقالات وتدمير المنازل، اضطر الآلاف من سكان العواصم إلى الفرار إلى خارجها والعودة من جديد إلى منازلهم في هذه القرى، وتحولت القرى ومناطق الريف بعد سنوات من هجر الناس لها تضج بالحركة وخاصة أن كثيراً من الفارين من جحيم الحوثي عادوا وليس لديهم ما يقومون به لتأمين لقمة عيشهم وعيش أسرهم، فالقرية لا تتوافر فيها فرص عمل ولا إمكانية من أي نوع لفتح أي مشاريع، باستثناءات محدودة، وكل ما في الأمر هو أن تبقى ضيفاً على أهلك وأسرتك لحين يحدث انفراج في العاصمة. هذا النزوح الإجباري أضاف أعباء كبيرة على المناطق الريفية، وخاصة تلك القريبة من عواصم المدن، والتي لا تبعد سوى كيلومترات قليلة منها، حيث وصلت تأثيرات الحرب التي تشنها قوات جماعة الحوثي والقوات الموالية للرئيس السابق علي عبدالله صالح، على السكان والقرى كافة، مع مراعاة أن بعضاً من القرى الريفية دخلت في حسابات المتمردين الحوثيين وصالح بعدما اتخذوها ممرات لأسلحتهم التي يستقدمونها من المناطق الشمالية من البلاد لخوض الحروب في المناطق الجنوبية. وتعد محافظات تعز، إب وكل مناطق الجنوب تقريباً، إضافة إلى عدد من مناطق في الشمال مثل حجة وبني مطر ومحافظة صنعاء، مثالاً للمأساة التي يعاني منها اليمنيون في الحرب التي يشنها ضدهم الحوثيون وقوات صالح منذ شهر مارس/آذار المنصرم، وهي الحرب التي بدأت تأخذ عناوين مختلفة، لعل أبرزها مظاهر المناطقية التي طغت كثيراً في تحركات الحوثيين وأنصار صالح في الفترة الأخيرة، حيث تستهدف المناطق الجنوبية بوسائل الحرب كافة. ترييف المدن أمر واقع فرضه الحوثيون على اليمنيين، حيث لا يزالون مصرين على تدمير كل ما من شأنه إعادة السلام المفقود إلى هذا البلد، لا سيما في الأشهر التي تلت ابتلاعهم العاصمة صنعاء وبدء تحالف علني بينهم وبين الرئيس السابق علي عبدالله صالح، والذي أراد تصفية حساباته مع خصومه من شباب ثورة الحادي عشر من فبراير عام 2011، والذين خرجوا إلى شوارع العاصمة للمطالبة بخروجه من الحكم. لقد حاول الحوثيون وصالح إعادة عجلة التاريخ إلى الوراء عبر سلسلة من الممارسات التي تفتقد الحكمة عبر توسيع شق الخلافات بين أبناء البلد الواحد، وقد نجحوا في ذلك بعد أن بدأوا شن حروب متنقلة في كل مكان تصل إليها آلياتهم العسكرية، ويخوضون اليوم معارك دامية في كل من عدن، تعز، إب والبيضاء ولحج وشبوة وغيرها من المناطق تحت شعار القضاء على التكفيريين والدواعش.ويبدو أن هذه السياسة تفتقر إلى الإنسانية، وخاصة بعد أن عطل الحوثيون وأنصار صالح الحياة في كافة مناحيها وأجبروا الناس على ترك مدنهم هرباً إلى الأرياف، حيث لا يزال الريف غير قادر على استيعاب الأعداد الوافدة من المدن، بعد أن كان الريف رافداً أساسياً للمدن لخصوصياتها والإمكانيات الكبيرة التي تتوافر فيها مقومات حياة عصرية. الريف اليمني تحول إذاً إلى حاضن جديد للفارين من جحيم الحرب التي أشعلها الحوثيون وصالح قبل عدة أشهر، وعاد من جديد ليشكل رافداً جديداً من روافد الحياة التي تعطلت بفعل الحروب الداخلية المتنقلة التي يجيدها المتمردون الحوثيون وحلفاؤهم. ويبدو أن المخاوف من عودة النزاعات في الريف بدأت تتعزز في الفترة الأخيرة بعد أن كانت المدن تخفف من وطأة هذه النزاعات، حيث يفر الناس من مشاكلهم الكبيرة في الريف إلى مساحات أرحب في المدن الحضرية. تهجير اليمنيين إلى الريف سيكون له الأثر الكبير على الطبيعة الديموغرافية للبلد، خاصة أن فرص الحياة في المدن بدأت تتقلص في الفترة الأخيرة، وبدأ الناس يقتنعون أن المدن، وإن وفرت لهم بعضاً من وسائل الاستقرار والهروب من بعض المشاكل، التي كانوا يواجهونها في الريف، إلا أنها تحولت إلى طارد اجتماعي وسياسي بامتياز، بعد أن أحالها المتمردون إلى أرياف مصغرة.
مشاركة :