لم تعد الاستدامة ترفاً بل واقعاً لا مناص من السير في دروبه للتعامل مع تحديات التغير المناخي وندرة الموارد، وعلى هذا النحو بدأ الاقتصاد الأخضر يفرض نفسه، في قطاعات إنتاجية منخفضة الكربون، تضمن الفعالية في استخدام الطاقة، وفي الوقت نفسه تضمن اندماج جميع أفراد المجتمع، وتمنع فقدان التنوع البيولوجي. قطاع المصارف العالمي أقر في 22 سبتمبر 2019، أي قبل يوم واحد من قمة الأمم المتحدة للعمل المناخي، ما يعرف بـ«مبادئ الخدمات المصرفية المسؤولة»، بحيث تلتزم بمواءمة أعمالها مع أهداف التنمية المستدامة التي أقرتها الأمم المتحدة عام 2015، وأيضاً مع أهداف اتفاقية باريس للتغير المناخي، 130 مصرفاً أقرت هذه المبادئ بإمكانات مالية قوامها 47 تريليون دولار أميركي ما يشكل 33% من قوة قطاع المصارف العالمية. والانتقال إلى اقتصاد منخفض الكربون يواكب متطلبات التغير المناخي، ويواكب أهداف التنمية المستدامة، يحتاج استثمارات جديدة تقدر بـ60 تريليون دولار من 2019 إلى 2030. وضمن هذا الإطار، وفي نوفمبر الماضي، أعلن «بنك الاستثمار الأوروبي»، أكبر مؤسسة مالية متعددة الأطراف في العالم، ومقره لوكسمبورج، استراتيجية غير مسبوقة بوقف تمويل مشروعات الوقود الأحفوري بنهاية عام 2021، متبنياً سياسة جديدة تتضمن زيادة الدعم لمشروعات الطاقة النظيفة، علماً بأن البنك قدّم قروضاً لمشروعات الوقود الأحفوري بقيمة نصف تريليون دولار. الاتجاه نحو الاقتصاد الأخضر يدفع باتجاه رؤى جديدة يتم تطبيقها على أرض الواقع، ففي قطاع النقل مثلاً، الذي يسهم حالياً- حسب برنامج الأمم المتحدة للبيئة- بثلث الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، ويستهلك 50% من الوقود على الصعيد العالمي، هناك مساعٍ تتسارع نحو السيارات الكهربائية والحافلات الكهربائية، فحافلة واحدة من هذه الأخيرة بمقدورها منع انبعاثات ثاني أكسد الكربون بمقدار 60 طناً في السنة، أي منع انبعاثات 33 سيارة تقليدية خلال عام كامل.. السيارات الكهربائية ستسيطر على السوق الأوروبية بحلول العام 2035. وستبيع الهند سيارات كهربائية فقط خلال الـ 11 عاماً المقبلة، ما يخفّض الانبعاثات بشكلٍ كبير.. كما بلغت قبل أيام القيمة السوقية لأسهم شركة تسلا المتخصصة في إنتاج السيارات الكهربائية، حوالي 89 مليار دولار لتتجاوز للمرة الأولى جنرال موتورز وفورد. أدوات الإنتاج ستتغير وكذلك أنماط الاستهلاك وقرارات الأفراد ستحدد سرعة وتيرة التغير نحو الاقتصاد الأخضر، وسيتم التعويل على المبادرات الفردية في شتى المجالات لاختصار الوقت وتقليل التكاليف، وضمن هذا الإطار، تلعب الجوائز المحفزة على الاستدامة والممارسات الخضراء دوراً كبيراً في تحفيز هذه المبادرات، بل وفتح الباب أمام ابتكارات تغير أساليب الإنتاج والنقل والاستهلاك لدى المؤسسات والأفراد، وتكرس ثقافة الاستدامة لدى الأجيال الحالية والمقبلة. الإمارات وتحفيز الاستدامة وعيٌ مبكر ترسخ لدى الإمارات بأهمية المحافظة على البيئة، كمحور رئيس يلامس الاستدامة بجوانبها المتعددة. وليس أدل على ذلك من مقولة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان: «إننا نولي بيئتنا جُل اهتمامنا لأنها جزء عضوي من بلادنا وتاريخنا وتراثنا.. لقد عاش آباؤنا وأجدادنا على هذه الأرض للمحافظة عليها، وأخذوا منها قدر احتياجاتهم فقط وتركوا ما تجدُ فيه الأجيال القادمة مصدراً ونبعاً للعطاء». مقولة يتردد صداها على أرض الواقع في مؤسسات ومبادرات وإنجازات، وأيضاً في معايير للبناء والتشييد وخطط واعدة للطاقة المتجددة، خطوات ريادية تتعزز من خلال مدينة «مصدر» و«أسبوع أبوظبي للاستدامة» و«جائزة زايد للاستدامة»، ومشروعات إنتاج الطاقة الشمسية، و«كودات البناء»، ونماذج البيوت والفلل المستدامة التي نجحت «مدينة مصدر» و«مركز محمد بن راشد للفضاء» في إنتاجها، و«مجمع محمد بن راشد للطاقة الشمسية» الذي يعد الأكبر من نوعه في العالم، جهود متناغمة مع أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة، وتنطلق من إرث المغفور له الشيخ زايد ورؤيته التنموية، والذي جعله جديراً بتكريم برنامج الأمم المتحدة للبيئة في أبريل عام 2005 ومنحه جائرة «أبطال الأرض» لدوره في حماية البيئة داخل الإمارات وخارجها، وتواصل النهج ذاته إلى الآن، وليس أدل على ذلك من حصول معالي الدكتور سلطان بن أحمد الجابر، الرئيس التنفيذي لشركة «مصدر» عام 2012 على جائزة أبطال الأرض. «جائزة زايد للاستدامة» ومنذ انطلاقها عام 2008، تعزز «جائزة زايد للاستدامة»- (جائزة زايد لطاقة المستقبل سابقاً)، ريادة الإمارات في تحفيز الاستدامة عالمياً في خمس فئات: الصحة والغذاء والطاقة والمياه والمدارس الثانوية، ويعكس تطور الجائزة مواكبة المستجدات العالمية في قضايا الاستدامة التي لم تعد مرتبطة فقط بالطاقة، بل بالحلول المستدامة في شتى القطاعات، وأحدثت الجائزة عبر الحلول التي يبتكرها المتنافسون، تغييراً إيجابياً في حياة أكثر من 318 مليون شخص حول العالم.. وأطلقت الجائزة مبادرتها التي تحمل عنوان «حملة 20 في 2020»، مبادرة إنسانية تتلخص في الإشراف على التبرع بتقنيات وحلول مستدامة لعدد من المجتمعات المحتاجة في 20 دولة، وذلك حتى نهاية عام 2020. جائزة الإمارات للطاقة تأسست «جائزة الإمارات للطاقة» عام 2012، برعاية صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، وتنطلق فعالياتها كل عامين منذ عام 2013، وتشمل فئات من بينها كفاءة الطاقة للقطاع العام، وأخرى لكفاءة الطاقة في القطاع الخاص، وفئة الابتكارات الشابة، وفئة ربط الطاقة الشمسية للمباني، ودورتها المقبلة ستكون خلال معرض إكسبو دبي 2020. «آشدين للطاقة المستدامة» أسست سارة بتلر سليس «جائزة آشدين للطاقة المستدامة» عام 2001 بتمويل من صندوق خيري تابع لعائلة سينسبري، وتهدف الجائزة إلى إيجاد حلول للطاقة المستدامة في المملكة المتحدة والدول النامية من أجل معالجة التغير المناخي وتحسين نوعية الحياة، وتقدم الجوائز في شهر يونيو كل عام في الجمعية الملكية الجغرافية في لندن. جائزة «أبطال الأرض» على الصعيد الدولي، وفي عام 2005 برزت جائزة أبطال الأرض التي يُعرّفها «برنامج الأمم المتحدة للبيئة» بأنها «أسمى الجوائز التي تمنحها الأمم المتحدة في مجال البيئة لتقدير الشخصيات البارزة التي كان لأعمالها تأثير إيجابي على البيئة الذين يعملون على حماية كوكبنا من أجل الجيل القادم». وللجائزة فروع أساسية منها: قيادة السياسات، فئة العلوم والابتكار، وفئة الإسهام والعمل، والرؤية الريادية، وفازت كوستاريكا في فئة قيادة السياسات لعام 2019، حيث وضعت خطة مفصلة لإزالة الكربون عن اقتصادها بحلول عام 2050، تماشياً مع اتفاق باريس للمناخ وأهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. مسابقة سيمنز للطلاب هي مسابقة إقليمية انطلقت في مايو 2011 برعاية من شركة سيمنز عملاق الطاقة والاتصالات والأجهزة الإلكترونية، بهدف الحصول على أفضل الإجابات على تساؤلات تتعلق بالتطورات السكانية والتغير المناخي والعولمة، سيحصل الفائزون على ما مجموعه 45000 دولار أميركي وفرص تدريب في شركة Siemens في الشرق الأوسط. الجائزة تستهدف طلاب الجامعات في مرحلتي البكالوريوس والماجستير المنضوين في مؤسسات أكاديمية في بلدان الشرق الأوسط وباكستان، من أجل كتابة مقالات تصل إلى 500 كلمة تتمحور حول كيفية بناء مدن مستدامة في الصحراء. جائزة «إيرثشوت» تم الإعلان عن إطلاق جائزة إيرثشوت في 31 ديسمبر 2019 وقد أطلقها الأمير ويليام دوق كامبرديج، وهي تأتي ضمن مبادرة لحل مشكلات التغير المناخي وتلوث الهواء وإمدادات المياه العذبة عبر 50 حلاً، ومن المقرر أن تحتفي الجائزة بخمسة فائزين سنوياً خلال الفترة من 2021 إلى 2030. مبادرة «واجه التغير المناخي» أكدت نور مزهر، مدير «مشروع التغير المناخي والطاقة»، بـ«جمعية الإمارات للطبيعة بالتعاون مع الصندوق العالمي للطبيعة»، أنه في ظل الكوارث المناخية التي يشهدها الكوكب، بات المستهلك أكثر وعياً بالخطورات المرتبطة بالتغير المناخي، وبات واضحاً أمامه أن استعادة الطبيعة هي الحل الأسرع لمكافحة التغير المناخي والحد من تداعياته، وهو الأمر الذي يضمنه التحول إلى الاقتصاد منخفض الكربون. وحسب «نور»، أطلقت «جمعية الإمارات للطبيعة بالتعاون مع الصندوق العالمي للطبيعة» مؤخراً مبادرة «واجه التغير المناخي»، بالتعاون مع وزارة التغير المناخي والبيئة وبنك HSBC و«هيئة البيئة أبوظبي» و«غرفة دبي». والمبادرة موجهة لقطاع الأعمال لتحفيزه على التحول نحو اقتصاد منخفض الكربون، حيث نقدم لهم فرصة المشاركة في ورش عمل مجانية لتدريبهم على متابعة ورصد انبعاثاتهم من الغازات الدفيئة، والعمل على خفضها وإعداد التقارير عنها، ما يسهم في رفد جهود الإمارات الرامية إلى تحقيق أهداف الاقتصاد الأخضر القائمة على جعل الإمارات نموذجاً ناجحاً في التطور منخفض الكربون. تقنية من أجل الاستدامة تعزيز الوعي بالاستدامة لدى الأفراد يستفيد من الطفرة التقنية، فتطبيق Evocco ابتكار أنجزه «هيو ويلدن» الحائز جائزة الأرض للشباب عام 2018 وعبر تحميله على الهاتف المحمول والتقاط صورة لفاتورة مشتريات المواد الغذائية، يخبرنا التطبيق بالبصمة البيئية لكل بند من بنود المشتريات. وحصلت شركة Ant forest الصينية التي انطلقت عام 2016 على جائزة أبطال الأرض في نسختها للعام الماضي في فئة «الإلهام والعمل»، لكونها تشجع الأفراد على تخفيض بصمتهم الكربونية باستخدام وسائل النقل العام ودفع الفواتير عبر الإنترنت، وهذه الخطوات يتم تسجيلها في نقاط «الطاقة الخضراء»، وعند عدد معين يتم زرع شجرة. ومنذ 2016 إلى خريف 2019، تمت زراعة 122 مليون شجرة ضمن مبادرة هي الأكبر على مستوى الصين. وليس أدل على أهمية المبادرات الفردية في دعم جهود الاستدامة بمعناها الواسع من فوز الروسية «ماريانا مونتيانو» البالغة من العمر 29 عاماً بـ«جائزة أبطال الأرض الشباب» لعام 2019، لابتكارها تطبيق «زراعة الأشجار» على الهاتف المحمول، بالشراكة مع Live expo Dubai لتعويض فقدان الأشجار جراء حرائق الغابات، وبالفعل نجحت خلال 3 سنوات من زراعة 400 ألف شجرة في 17 منطقة روسية، وتكتسي مبادرتها أهمية لأن روسيا لديها 19% من احتياطيات الغابات في العالم التي تحتجز قرابة 600 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً.. ومن نيبال، فازت «سونيكا ماناندهار» البالغة من العمر 30 عاماً، بالجائزة ذاتها لعام 2019، لمساعدة النساء في نيبال على امتلاك سيارات كهربائية. سلاح التشجير نجحت كولومبيا في استخدام حلول من الطبيعة عبر مشروع «الممر الأخضر» الذي حصل على جائزة مؤسسة آشدين الخيرية لعام 2019. المؤسسة مقرها لندن، وانطلقت منذ عام 2001 بهدف تشجيع مشروعات تحمي البيئة، سواء في بريطانيا أو الدول النامية. مدينة «ميديلين» الكولومبية قامت بتشجير 18 شارعاً و12 مجرى مائياً من أجل تقليل درجات الحرارة، فالحدائق الحضرية بمقدورها تقليل الحرارة بمعدل درجة مئوية واحدة. وللهدف ذاته، تخطط مدينة ميلانو الإيطالية لزراعة 3 ملايين شجرة بحلول 2050 بعدما عانت جراء موجات حر شديدة من انقطاعات في التيار الكهربائي بسبب زيادة تشغيل أجهزة التكييف. المساهمة الفردية يرى الدكتور خالد جلال أحمد، الأستاذ المشارك بكلية الهندسة المعمارية بجامعة الإمارات العربية المتحدة، أنه يمكن لأفراد المجتمع المساهمة الفعالة في تحقيق الاستدامة من خلال عدة إجراءات، تبدأ باختيار موقع المسكن في مكان قريب من الخدمات اليومية كالمدرسة والمسجد والمتجر، ما يعمل على تقليل المسافة بين المسكن ومواقع الخدمات، وهذا سيؤدي بدوره إلى تقليل الاحتياج لاستعمال السيارة الخاصة، ومن ثم يقلل من انبعاثات غازات الدفيئة والتلوث الناتج من عوادم السيارات. ويجب توجيه المسكن بشكل يقلل من الاكتساب الحراري، وذلك بتوجيه الفراغات المعيشية نحو الشمال والشمال الغربي، وبذلك يمكن توفير الطاقة المستهلكة في تكييف الهواء، مع توفير إمكانية التهوية الطبيعية كلما أمكن. وتشكل مواد البناء المستدامة للمسكن فرصة مهمة لتوفير الطاقة المستهلكة في المسكن، وأهمها مواد العزل الحراري للأسطح والحوائط الخارجية للمبنى. كما يمثل اختيار نظام إطارات النوافذ المعزولة حرارياً مع الزجاج المزدوج ضرورة مهمة لتحقيق هذا الهدف. واختيار نظم الإضاءة الموفرة للطاقة والمعروفة بـ «ليد». كيف نتعلم من الطبيعة؟ يشير الدكتور توفيق هيدموس، أستاذ مساعد بكلية التصميم الهندسي بـ«الجامعة الأميركية في الإمارات»، المتخصص في الاستدامة البيئية ومحاكاة الأنظمة القائمة في الطبيعة عند إعداد التصميمات الهندسية (Biomimetics)، إلى أن الأفراد بمقدورهم التعلم من الطبيعة لإيجاد حلول مستدامة. وببساطة شديدة، فإنه لا يوجد في الطبيعة نفايات، فهناك دورة حياة Life Cycle، مثلاً أوراق الشجر عندما تجف وتتساقط تتحلل إلى مكونات عضوية تزيد التربة خصوبة، وحتى النفايات العضوية يمكن تدويرها بحيث تكون مصدراً للطاقة أو حتى سماداً لتعزيز الإنتاج الزراعي، فمنطق التدوير مستمد أصلاً من الطبيعة. وهيدموس الحاصل على الدكتوراه من جامعة IUAV الإيطالية يلفت الانتباه إلى زهرة اللوتس التي تنمو في مستنقعات لكن أوراقها تظل نظيفة، فلديها مكونات تجعلها قادرة على إزالة الأتربة والملوثات، ضمن آلية يمكن تفعيلها واقعياً في مواد الدهانات المستخدمة في الحوائط من دون أن تكون لها أضرار بيئية. ويستطيع الأفراد التعلم من نبات «الكاكتيوس» الذي يتحمل الجفاف، ويقوم بتخزين المياه، والاستفادة من الرطوبة في مواسم الجفاف، وضمن هذا الإطار تقوم بعض الدول الأفريقية باستخدام أوعية لالتقاط الرطوبة من الهواء وتخزين المياه الصالحة للشرب، ويوجد ما يعرف Water Harvesting Net. كما أن الخنفساء الصحراوية تستطيع الاستفادة القصوى من المياه حتى في ظروف الجفاف، فظهرها يلتقط الرطوبة ويحولها إلى مياه يتم امتصاصها، وأيضاً بيت النمل الذي يضمن وجود قنوات هوائية طبيعية تحافظ على درجة حرارة ورطوبة داخل منازل النمل أقل من نظيرتها خارجه، وبالفعل تم تطبيق هذه المقاربة في مركز تجاري بمدينة هيراري عاصمة زيمبابوي، East Gate Center، وهو نموذج للتصميم المعتمد على آليات طبيعية في التبريد والتهوية.
مشاركة :