في الخامس عشر من يناير الجاري افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أكبر قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر بالقرب من الحدود الجنوبية لمصر شرق مدينة أسوان، ووفقاً لما أوردته وسائل الإعلام عن طبيعة تلك القاعدة تبلغ مساحتها حوالي مائة وخمسين ألف فدان وتضم قاعدتين إحداهما جوية والأخرى بحرية، فضلاً عن مستشفى عسكري وعدد من الوحدات القتالية والإدارية وميادين للرماية والتدريب لجميع الأسلحة، بالإضافة إلى أنها تضم رصيفا تجاريا ومحطة استقبال ركاب، وأرصفة متعددة الأغراض وأرصفة لتخزين البضائع العامة، وأرصفة وساحات تخزين الحاويات، بالإضافة إلى مطار برنيس الدولي ومحطة لتحلية مياه البحر. ووفقاً للمتحدث باسم الرئاسة المصرية، فإن قاعدة «برنيس» تعد «قوة عسكرية ضاربة في البر والبحر والجو»، حيث ارتبط تأسيسها «بالمتغيرات الإقليمية والدولية الراهنة». وفي تصوري أن هذا القرار الاستراتيجي يكتسب أهمية بالغة على صعيد التوقيت والدلالات والانعكاسات، ليس فقط بالنسبة إلى الأمن القومي المصري وإنما بالنسبة إلى الأمن الإقليمي بأسره وأمن منطقة الخليج العربي على نحو خاص.فعلى صعيد التوقيت، فإن التحدي دائماً ما يخلق الاستجابة، والتحديات الأمنية الراهنة غير المسبوقة إذ لم تكن المرة الأولى التي تولي فيها مصر اهتماماً بتأسيس قواعد عسكرية تكون نقاط ارتكاز للحفاظ على الأمن القومي المصري، ففي يوليو عام 2017 افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قاعدة محمد نجيب العسكرية، في محافظة مرسى مطروح على الحدود الغربية لمصر، و تعد أكبر قاعدة عسكرية في إفريقيا والشرق الأوسط، وفي ظل التحديات الأمنية التي تواجه الأمن القومي المصري مع استمرار المفاوضات بشأن سد النهضة واحتدام الصراع في ليبيا مع زيادة وتيرة التدخلات الخارجية في الأزمة الليبية، فضلاً عن الصراع على الغاز في منطقة البحر المتوسط، بالإضافة إلى استمرار الأزمة اليمنية وتهديد أمن مضيق باب المندب الاستراتيجي، فإن جميعها متغيرات ليست عابرة وإنما تطلبت رؤى متكاملة للتعامل معها على المديين القريب والبعيد.وعلى صعيد الدلالات، صحيح أن تأسيس تلك القواعد لا يعني مؤشرا ما في اتجاه عسكرة الصراعات الراهنة، ولكن ضمن الصراعات الممتدة، فإن تحقيق الردع يبقى أمرا مهما، والذي توافق عليه الباحثون بأنه «إرسال رسالة واضحة للخصم بأن أي عدوان سيكون له ثمن باهظ وسوف تكون له أضرار عديدة تفوق أي مكاسب يستهدف الطرف الآخر تحقيقها سواء أكانت مادية أو معنوية»، حتى أنه عندما قامت بعض الأطراف بالحديث عن الحرب لتسوية الخلافات كان الرد المصري قاطعاً في هذا الشأن من خلال التأكيد على أن التفاوض هو الآلية التي تنتهجها مصر لتسوية الخلافات وفقاً لمبادئ القانون الدولي.وعلى صعيد الانعكاسات، فهي عديدة وتكفي الإشارة إلى اثنتين الأولى: أن تلك القاعدة قد جاءت ضمن حرص مصر على تأمين حدودها الجنوبية ضمن رؤية استراتيجية لتأمين الحدود المصرية من الجهات الأربع في ظل حالة الاضطراب الأمني الإقليمي المزمنة، والتي تتطلب إجراءات احترازية للحفاظ على أمن تلك الحدود، والثانية: يعكس تأسيس تلك القاعدة حقيقة مهمة مؤداها أن أمن البحر الأحمر هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري وهو ما تؤكده خبرة الماضي ومستجدات الحاضر، وتكفي الإشارة هنا إلى مثال -على سبيل المثال وليس الحصر- وهو إعلان مصر إرسال قطع بحرية لتأمين الملاحة في مضيق باب المندب في أعقاب الانقلاب الحوثي في عام 2014، وإعلان الحوثيين اتجاههم صوب المضيق، وفي هذا السياق قال الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي: «إن حماية مضيق باب المندب أولوية قصوى من أولويات الأمن القومي المصري»، بالإضافة إلى تأكيد قائد القوات البحرية المصرية القول «إن مصر تتابع الموقف في اليمن بشكل يومي، وإن أي خطورة على الأمن القومي المصري سوف يتم التعامل معها طبقًا للموقف». ومع التسليم بأهمية تلك القاعدة ليس فقط بالنسبة إلى الأمن القومي المصري، بل إلى أمن الخليج والأمن الإقليمي وهو ما أشار إليه الشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبوظبي الذي شارك في مراسم افتتاح القاعدة ضمن نخبة من مسؤولي الدول العربية والأوروبية بالقول: «إن قاعدة برنيس العسكرية ومطارها المدني يعززان دور مصر المحوري في منظومة الأمن العربي والاستقرار الإقليمي، وأضاف القول: «إن القوات المسلحة المصرية ليست حصناً لمصر فقط، وإنما هي قوة لكل العالم العربي». فإن تزامن تأسيس تلك القاعدة مع إعلان المملكة العربية السعودية التوقيع على الميثاق التأسيسي لتجمع الدول المطلة على البحر الأحمر وخليج عدن، والذي يضم ثماني دول منها مصر والسعودية، فإن تلك الخطوات تعني تكامل الجهود المصرية والخليجية لدرء أي محاولات لتقويض الأمن الإقليمي أو استهداف أمن الخليج العربي عموماً وأمن الملاحة البحرية على نحو خاص، حيث إن وجود آليات إقليمية للتعامل مع التحديات والمخاطر الراهنة يعد متطلباً مهماً في ظل ثلاث حقائق، الأولى: أن النهوض بالأمن الإقليمي يتطلب دعم قدرات الوحدات المكونة لهذا الأمن وهي الدول المحورية، بالإضافة إلى وجود أطر إقليمية تنظم فيها تلك الجهود ويكون لها صفة الديمومة، والثانية: أن تفعيل دور الدول المحورية ضمن الأزمات التي تشهدها دول الجوار يعد أمراً مهماً، وخاصة أن ديمومة تلك الأزمات قد أوجدت صراعاً وتنافساً إقليمياً ودولياً غير مسبوق وجد سبيله في تأسيس عدد من القواعد العسكرية لعدد من الدول في منطقة القرن الإفريقي، وهو ما أضفى تعقيداً على تلك الصراعات، بل إثارة تساؤلات عن مسؤولية أمن الملاحة البحرية في ظل تنامي مخاطر الأمن البحري في الوقت الراهن، والثالثة: أنه بغض النظر عن المدى الزمني للأزمات الإقليمية الراهنة والتي تفرض تحديات غير مسبوقة، فإن مسألة تحقيق التوازن الإقليمي تبقى ضرورة استراتيجية لضبط الصراعات وعدم خروجها عن الحد المألوف.ومع التأكيد على أن تأسيس تلك القاعدة والذي يعكس رؤية استراتيجية لمصر ضمن التعامل مع التحولات الإقليمية والعالمية الراهنة، فضلاً عن أنه يعكس جاهزية الجيش المصري للتعامل مع أي مهام توكل إليه، فإن تنامي اهتمام مصر بتأمين البحر الأحمر يؤكد مجددا أن أمن الخليج العربي هو جزء لا يتجزأ من الأمن القومي المصري وهو الأمر الذي أكده غير مرة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ضمن لقاءاته بقادة دول الخليج، فضلاً عن الجهود المصرية والخليجية للتعامل مع التحديات الراهنة من شأنها دعم الأمن الإقليمي والحيلولة دون تدويل الأزمات الإقليمية التي تواجه مخاطر التدخلات الخارجية الأمر الذي من شأنه زيادة هوة الشقاق بين أطرافها المحليين، بالإضافة إلى مخاطرها الإقليمية. { مدير برنامج الدراسات الاستراتيجية والدولية بمركز البحرين للدراسات الاستراتيجية والدولية والطاقة «دراسات».
مشاركة :