أكد أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني في كتابه "دراسة التاريخ"، أن الحضارات الكبرى أسقطت ذاتها بذاتها، قائلا، "عادة ما تحمل الحضارات في طياتها أسباب موتها وفنائها". يتجه عديد من الدراسات العلمية والتقارير البحثية، الصادر عن مراكز جامعية ومؤسسات بحثية طيلة الأعوام الأخيرة، نحو تأكيد انطباق هذه الخلاصة على الحضارة الإنسانية المعاصرة. يسود شبه إجماع في أوساط الخبراء والباحثين على أن الإنسانية وصلت إلى نقطة اللا عودة في تدمير الحضارة؛ فآخر تقرير صادر عن مركز بحثي أسترالي حول إصلاح المناخ؛ يرسم صورة مرعبة لسناريو كارثي للحياة البشرية، ألمح المشاركون في التقرير إلى أن منتصف القرن الحالي، يحتمل أن يكون بداية نهاية هذه النسخة من الحضارة الإنسانية، نتيجة تداعيات الاستهداف البشري لأنظمة المناخ العالمي، وما سيترتب على ذلك من ذعر سياسي وفوضى عالمية. قيامة 2050 بسبب المناخ حذر التقرير من ارتفاع متوسط درجات الحرارة العالمية، بمقدار درجتين مئويتين، بحلول عام 2050، الذي يعني كارثة بشرية كبرى في جميع أنحاء العالم؛ فهذا التغير "يمثل الآن تهديدا وجوديا، قريبا إلى متوسط الأجل، للحضارة الإنسانية"، وصمم نموذجا لكارثة المناخ المحتملة، رغم تجاوز حجم الدمار القدرة على التصوير، ببساطة لأن ما سيقع يهدد "بإبادة الحياة الذكية" في كوكبنا. نعم، ثمة احتمال كبير أن تكون حياة البشر في طريقها إلى الانقراض بأبشع الطرق. يورد التقرير توقعاته لأجزاء من المشهد العام على الكرة الأرضية بعد 30 عاما، فيتحدث عن تدمير واسع النطاق في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك التصحر "الحاد" في جنوب إفريقيا وجنوب الأبيض المتوسط، وغرب آسيا والشرق الأوسط وأستراليا الداخلية، وعبر جنوب غرب الولايات المتحدة، وعن انهيار النظم الإيكولوجية؛ بما في ذلك أنظمة غابات الأمازون المطيرة والأنظمة المتجمدة في القطب الشمالي والشعاب المرجانية. تستمر القتامة؛ في صفحات التقرير، بالحديث عن احتمال استحالة العيش في الدول والمناطق الأكثر فقرا، لعدم قدرتها على توفير بيئات باردة اصطناعية، عندها سيتحرك أكثر من مليار شخص للهجرة بعيدا عن المناطق المدارية، فيما ستصبح الزراعة "مستحيلة" في المناطق شبه الاستوائية الجافة، وينخفض إنتاج معظم المناطق في الغذاء، بسبب توالي الأحوال الجوية القاسية. قد يكون التحذير من كارثة عام 2050 أكثر تحذيرات العلماء خطورة، منذ بدء الحديث عن تغير المناخ، في الربع الأخير من القرن الماضي، فلا أحد من قراء فنجان المستقبل أو "منظري القيامة" من ذوي الخيال الواسع "القنبلة النووية، حرب كيماوية، أسلحة بيولوجية، هجوم فضائي..."، يفطن إلى احتمال توقف انتهاء الحياة البشرية على أزمة المناخ، رغم وجود إشارات عديدة إليه، عند كل حديث عن الدواعي والأسباب وراء انهيار الحضارات. تاريخيا، كان التغير المناخي خارج معادلة العوامل المتدخلة في أفول حضارة معينة، فلم ينتبه معظم المؤرخين إلى هذا المعطى إلا حديثا، بعيد تطور الأبحاث العلمية الدقيقة حول الحضارات القديمة، فحينها فقط، تكشفت أهمية هذا العامل الذي كان دوما بعيدا عن دائرة الرصد؛ عند كل بحث في أسباب الزوال، وتحليل دواعي الانهيار. المناخ تهديد وجودي كان المناخ - بدرجات متفاوتة - سببا وراء نهاية معظم الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ البشري الممتد، وقبل ذلك كان فاعلا في صناعة هذا التاريخ، فالتغير المناخي أدى دورا مهما في الهجرة، حيث أسهمت العصور الجليدية في هجرة "الإنسان العاقل" إلى خارج إفريقيا في العصور الأولى، كما أثرت التقلبات المناخية في الزراعة في الشرق الأدنى القديم، عبر مرور الأعوام. كانت الأسباب وراء هجرة سكان وادي السند "حضارة هارابا" - باكستان حاليا -، منذ نحو أربعة آلاف عام، مجهولة حتى وقت قريب، حيث أكد العلماء في دراسة، في مجلة "مناخ الماضي"، أن التغير المناخي كان السبب وراء هجرة سكان هذه الحضارة أراضيهم، نقيض ويلات الاحترار التي تعانيها الإنسانية اليوم، تسبب عصر جليدي صغير النطاق، في تغيرات التوازن الحراري بين نصفي الكرة الأرضية، ما أثر سلبا في الزراعة، وصعّب على شعب هارابا أن يزرعوا ما يكفيهم من المحاصيل، ما حتم عليهم الهجرات المتوالية حتى نهاية حضارتهم. وقبلهم كان المناخ سبب انهيار الإمبراطورية الأكادية؛ إحدى أقدم الحضارات في العالم التي قامت في بلاد ما بين النهرين، وفق ما جاء في ورقة باحث ياباني في مجلة "جيولوجي"؛ فقد غادر السكان المدن المزدهرة بصورة مفاجئة قبل 4100 عام، حيث بقيت المنطقة مهجورة لمدة 300 عام، خلاء يثير شكوكا حول تفسير الخوف من غزو أقوام أخرى لبلاد ما بين النهرين، قبل أن تؤكد العينات المتحجرة أن تغير المناخ كان مساهما فعالا في انهيار هذه الإمبراطورية. امتدت الحضارة الآشورية من الأبيض المتوسط غربا حتى الخليج وغرب إيران شرقا، فسيطرت على الشرق الأدنى لثلاثة قرون، بلغت في الاثنين أوجها بفعل مناخ جيد ساعد على بطش الإمبراطورية بسبب ارتفاع المحاصيل، قبل أن ينقلب إلى جفاف شديد في القرن الثالث من عمر الإمبراطورية، وامتد ما بين عام 675 قبل الميلاد حتى 550 قبل الميلاد، حيث كانت الإمبراطورية الآشورية الحديثة تشهد انهيارا، جراء القحط الذي تعيشه المنطقة. تكرر السيناريو ذاته مع حضارة المايا التي قامت شمال جواتيمالا والمكسيك وهندوراس والسلفادور، الذي دمر الاستعمار الإسباني في القرن الـ 16 ما قاوم قساوة المناخ من ممالك المايا. والحضارة الرومانية، بحسب المؤرخ كايل هاربر الأكاديمي في جامعة أوكلاهوما، الذي تجاوز الأسباب التقليدية في كتابه "مصير روما: المناخ والأمراض ونهاية الإمبراطورية"، مؤكدا أن التغيرات المناخية تآمرت على هذه الحضارة مع الدورات الشمسية والثورات البركانية والأمراض والأوبئة "الطاعون". هل يكون ما نشهده في الحضارة الحالية سببا لنهايتها، خاصة أن البعض يتحدث عن بلوغها الدورة عام 1940، ما يعني أن بداية الانحدار قد انطلقت فعلا، في انتظار وصولها إلى النهاية بعد 30 عاما، حينها ستبدأ معركة أخرى حول إعادة التوطين والنزاع حول الأراضي والموارد والمياه.. وكل ما سيعجل بطي صفحة أخرى من صفحات الحضارة في سجل التاريخ.
مشاركة :