مهرجان روتردام السينمائي يكرّس انفتاحه على التجارب الشابة

  • 1/28/2020
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

يمكن أن نطلق على فيلم “بعوض” للمخرج البرتغالي جواو نونو بنتو أيضا “1917”، فهو مثل الفيلم البريطاني المرشح للأوسكار، تجري أحداثه في ذلك العام تحديدا خلال الحرب العالمية الأولى، وهو مثله في أنه يصوّر تجربة جندي في مقتبل الشباب يخوض رحلة في قلب جحيم الحرب دون أن يشارك فعليا في القتال، إلاّ أن دوافعه تختلف تماما عن دوافع بطل الفيلم البريطاني، كما أن ساحة الحرب ليست أوروبا، بل أحراش أفريقيا، بكل ما تحتويه من غرائب وعجائب وأهوال. بطل الفيلم شاب لم يصل بعد مرحلة البلوغ، فهو في السابعة عشرة من عمره، ينطلق بدافع الشعور بالواجب الوطني للتطوّع في الجيش البرتغالي (الاستعماري) لكي يجد نفسه مرسلا إلى موزمبيق للالتحاق بالقوات البرتغالية هناك التي تقاتل ضد القوات الألمانية في سياق التنافس الضاري الذي كان سائدا وقتها حول المستعمرات. المخرج الممثل هذا الشاب الذي يقوم بدوره المخرج نفسه، جواو نونو بنتو، يدعى “زكريا” ومعناه “الذي يتذكره الله”. ولكنه سيسقط في أفريقيا مريضا بالملاريا. تتركه الوحدة التي التحق بها وينسى رفاقه وجوده أصلا، ويرحلون ويتركونه خلفهم وحيدا يتعين عليه أن يتماسك ويتحامل على نفسه ويقطع وحده رحلة مخيفة وسط الأدغال وهو يحمل سلاحه وتموينه، بغية الوصول إلى وحدته العسكرية. وخلال ذلك يواجه الكثير من المتاعب والأهوال ويدرك أن الحرب ليست نزهة بل صناعة للقتل والتعصب والكراهية. يبدأ الفيلم بمشهد فريد في سينما الحرب. مجموعة من الجنود البرتغاليين يأمرهم قائدهم الشرس بامتطاء رؤوس عدد من الرجال الأفريقيين فارعي الطول الذين تم إخضاعهم للرجل الأبيض، بل هم بمثابة “عبيد” للبرتغاليين في البرتغال. يقفز كل منهم ويعتلي رأس الأفريقي وهو يحمل سلاحه ومتاعه، لكي يعبر الأفارقة الخاضعون للقوة الاستعمارية الغاشمة، مياه بحيرة واسعة، يخوضون في الماء، لكي لا يبتل الجنود البرتغاليون الذين يحملهم الأفارقة فوق رؤوسهم. البطل زكريا يتعلم خلال الرحلة معنى التضامن الإنساني، وكيف أن الحرب لعبة مدمرة تدفع به إلى هلاك الجسد وهلاك الروح هذا الخضوع أو بالأحرى – الإخضاع والاضطهاد والتنكيل بالآخر – الأفريقي، الأسود، سيتضح أكثر فأكثر عبر مسار الفيلم. لا مجال هنا للتهاون معهم كما يوصي قائد الوحدة العسكرية جنوده، بينما يقول قائد آخر يقيم زكريا ضيفا على وحدته أنه قرّر أن يمتنع عن القتال وأنه يعتزم مع رجاله الاستسلام فور وصول الألمان إليهم.. فهو لا يريد أن يموت على أيدي أولئك الوحوش. وعندما يرغب زكريا في مواصلة طريقه بصحبة مرافقيه الاثنين من الأفريقيين، يحذره القائد بقوله إن أكثر الذين يجب أن يخشاهم هم مرافقاه الأفريقيان لأن الأفارقة “يغدران ويتمردان”. ولكن التمرد، سيأتي – كما سنرى – بسبب تعنت زكريا ورفضه أن يترك أي فرصة لرفيقيه لنيل قسط من الراحة ويرغمهما على مواصلة السير وهما يحملان الأمتعة الثقيلة، ويقطعان مسافات طويلة لأيام وليال، وسط طقس شديد الحرارة، فزكريا يبدو كما لو كان يشق طريقه بإصرار محموم، نحو الجحيم نفسه، في رحلة تذكرنا على نحو ما، برحلة بطل “قلب الظلام” لجوزيف كونراد. الصورة ضبابية شاحبة، يسودها اللون الأصفر خاصة في المشاهد الليلية. والمساحات الواسعة المفتوحة للصحراء خلال النهار تعكس أشعة الشمس وتظهر المنظور البعيد في قلب اللقطة، مغبرا لا تتضح معالمه تماما عبر الأفق. وشريط الصوت البديع، المشغول بالموسيقى يصنع هالة من الغموض، والموسيقى تتدرّج في حدتها وتتصاعد، أو تمتزج بأصوات الحيوانات المفترسة التي نسمعها خلال الليل، تعوي. وسنرى منها ما يقشعر له الأبدان. فالفيلم لا يغفل قط أننا في أدغال أفريقيا. مهمة مستحيلة زكريا الذي يطلق عليه الأفارقة “بوزونغز” أي الرجل الأبيض، يبدو مهجوسا بفكرة المضي قدما مهما كلفه الأمر، في مهمته المستحيلة. وبعد أن يضطر إلى قتل مرافقيه الأفريقيين الأول ثم الثاني، يصبح وحيدا تماما، ثم يقع أسيرا في قبضة قبيلة أفريقية تتزعمها النساء. لا توجد لغة مشتركة بينه وبينهنّ. يتعرّض في البداية لمعاملة سيئة، ولكن النساء يتبنينه بحيث يصبح كما لو كان “الإله الأبيض” ثم يقمن بتزويجه من فتاة من القبيلة، لكن الأمور لا تسير على ما يرام بل تكاد تنتهي بكارثة. الفيلم لا يسير في مسار واحد صاعد بل يتابع مخرجه رحلة زكريا من خلال سياق متعرج، يتأرجح في الزمن، يعود إلى الوراء حينا، أو ينطلق في عالم الكوابيس والأحلام حينا آخر، ويبدو في النصف الثاني منه كما لو كان ينطلق من خيال شاب محموم، مصاب بالملاريا، يتعافى حينا ويسقط حينا آخر، ويكاد ينهار لولا العلاج بالأعشاب ومزيج المشروبات التي ترغمه نساء القبيلة الأفريقية على احتسائها. هناك بعض الاستطرادات في مشاهد الأسر مع تلك القبيلة الأفريقية من النساء، حيث يستغرق السرد كثيرا في استعراض مشاهد الفولكلور الأفريقي: الرقص والغناء وإعداد الطعام وطقوس الموت والزواج، ويتحوّل مشهد الجنس بين زكريا وعروسه الشابة، إلى ما يشبه الطقوس الشيطانية المخيفة. ويصبح الاستمرار في السير كما لو كان بحثا عن النجاة أي هروبا إلى الأمام لا الوصول إلى هدف محدد. وعندما يبلغ زكريا بحيرة مليئة بالمياه العذبة، يتذوّق الماء في نشوة واهتياج وفرح. ولكنها لن تكون النهاية. بذل المخرج جواو نونو بنتو، جهدا هائلا في التصوير في الأماكن الطبيعية كما استخدم عشرات الممثلين الثانويين من غير المحترفين ومزجهم مع الممثلين المحترفين، ومنح الفيلم إيقاعا يشبه إيقاع الملاحم القصصية، وقد برع في دور زكريا الذي يشعر أن الرب اختاره لتلك المهمة المستحيلة، وهو يخوضها بكل عنفوان يتحدى جسده النحيل والمرض الذي يكاد يقعده، ويصمد للظروف القاسية في المناخ والبيئة الأفريقية، ولكنه يتعلم خلال الرحلة معنى التضامن الإنساني، وكيف أن الحرب لعبة تدمر إنسانية الإنسان وتدفع به إلى هلاك الجسد وهلاك الروح. تكمن عظمة المسرحيات الإغريقية التي أبدعها كتابها قبل قرون من ظهور التقويم الميلادي، في أنها ما زالت تلهم خيال المسرحيين والسينمائيين وكتاب الدراما عموما بأفكارها الإنسانية، يقتبسونها ويعيدون تقديمها في معالجات عصرية. أحدث هذه المعالجات التي تأخذنا من عالم سوفوكليس إلى عالم اليوم بمشاكله الجديدة تتبدى في الفيلم الكندي “أنتيغون” Antigone للمخرجة الشابة صوفي ديراسب (من مقاطعة كيبيك)، فهو يتناول قضايا العنصرية والهجرة وعنف الشرطة وعقم القانون، والحلم بالتحقّق في مجتمع جديد هربا من الموت في الوطن. والمعالجة التي كتبتها المخرجة نفسها جاءت بالطبع بتصرف كبير رغم حضور معظم شخصيات المسرحية الأصلية. لا يوجد هنا “كورس” أو مجموعة المنشدين الذين يردّدون الأغاني التي تعلّق على أحداث العمل، وتغيب الملامح المعروفة لكريون، خال أنتيغون وشقيق زوجة أوديب “جوكاستا”. قبل عشر سنوات جاءت إلى كندا الفرنسية أسرة مكونة من الجدة “مينيس” (رشيدة أوسعادة) ومعها أربعة أطفال قتل والدهم في الصراع المشتعل في الجزائر. الأطفال الأربعة هم: الابن الأكبر “اتيوكيل” (حكيم براهيمي)، والأصغر “بولينيس” (رواض الزين)، والابنة الكبرى “اسمين” (نور بلخيرية)، والصغرى “أنتيغون” (نعيمة ريسي). تمر السنون. ولا يزال وضع الأسرة في المهجر غير مستقر، فلم يحصل الجميع بعد على الإقامة الدائمة. ولكن أنتيغون تتفوّق في دراستها وتنال مكافأة مالية نتيجة تفوّقها في المدرسة الثانوية. إنها ما زالت في السابعة عشرة من عمرها. تتطلع إليها الأسرة في أمل. ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فالآلهة تدبّر أمورا أخرى غير ما يحلم به المرء ويتمناه حال التراجيديا اليونانية. الابن الأصغر بولينيس ضالع في أعمال غير قانونية ترتبط بتوزيع المخدرات، وقد سبق أن قبض عليه وقضى فترات في السجن. وذات يوم أثناء وجوده مع مجموعة من الشباب، تداهم الشرطة المكان يريدون القبض عليه، يتصدى لشرطي، وتنطلق رصاصة تصيب شقيقه اتيوكيل في مقتل. يلقى ببولينيس في السجن حيث يواجه الترحيل إلى الجزائر التي لا يعرف عنها شيئا فقد غادرها وهو طفل صغير. يتفتق ذهن أنتيغون عن خطة لإنقاذه والتضحية بنفسها، فتقص شعرها بحيث تشبه أخاها تماما، وترتدي باروكة وتذهب لزيارته في السجن مع جدتها، ثم يحدث التبادل على أن يخرج بولينيس ليغادر كندا بأسرها. وتقبع أنتيغون في مكانه إلى أن يكتشف أمرها فتتفجّر القضية في عموم البلاد وتصبح قضية رأي عام. ما الذي يدفع أنتيغون إلى التضحية بنفسها من أجل شقيقها المتوّرط بالفعل في أعمال مخالفة للقانون؟ هذا السؤال تجيب هي عليه بكل قوة “قلبي يقول لي..”، ويصبح هذا القول شعارا يتردّد في حملة شبابية ضخمة يتم الحشد لها عبر مواقع التواصل الاجتماعي. لكن أنتيغون هي كما في التراجيديا اليونانية، رمز التضحية بالذات من أجل العائلة، فالعائلة تظل لها المكانة الأولى. وهذا المنطق ليس من الممكن أن يفهمه المحقّقون أو القضاة. وهي تحتج على النظام القضائي كله وتكشف عيوبه ولا إنسانيته. موقف أنتيغون يتناقض مع موقف شقيقتها اسمين (كما في مسرحية سوفوكليس) فالثانية ترغب في التحرّر من العائلة والاندماج في المجتمع الجديد وأن تتزوج وتعيش حياة طبيعية بعيدة عن المشاكل. وأنتيغون كانت قد ارتبطت عاطفيا بشاب هو “هيمون” (وهو في المسرحية الأصلية ابن كريون خال أنتيغون وملك ثيب بعد مصرع أبيها أوديب). ولكن والد هيمون في الفيلم ليس معادلا لكريون، وليس مثالا للشر والتسلط مثله بل هو الشخصية الوحيدة التي لا تحمل اسما يونانيا قديما، بل يُسمى “كريستيان” وهو عمدة المدينة تحكمه اعتبارات سياسية ترغمه لكي يلتزم بالقانون، لكنه أيضا رجل ودود صادق يتعاطف مع أنتيغون ويشعر بمعاناة ولده، فيسعى لإثناء أنتيغون عن موقفها ودفعها إلى الاعتراف بمكان شقيقها، ولكن بلا جدوى. من الناحية البصرية الفيلم شديد الإتقان ويتميز بالتصوير الممتاز الذي قامت به المخرجة نفسها، كما يتمتع بالحيوية والإيقاع السريع، والانتقالات المحسوبة جيدا بين الداخل والخارج، وشريط الصوت الجذاب الذي تستخدم فيه المخرجة الموسيقى الحديثة الشبابية، وكذلك الكثير من الأغاني الشعبية من منطقة القبائل في الجزائر التي يفترض أنها أصل تلك العائلة المهاجرة. وتبتكر المخرجة فكرة جلوس الجدة في الحديقة المقابلة للسجن، تنشد كل يوم الأغاني القبائلية، يحيط بها عدد يتزايد يوميا، من الشباب والكبار، في شبه فنية صامتة تضامنا مع أنتيغون. شخصية هيمون غير مخدومة جيدا في السيناريو، والمشاهد التي يظهر فيها هي الأضعف في الفيلم. كما أن أداء الممثل أنطوان ديسروشير يهبط كثيرا بإيقاع المشاهد التي يظهر فيها مع الممثلة الواثقة، أي الموهبة الجديدة التونسية الأصل نعيمة ريسي. من لم يطلع على مسرحية سوفوكليس ربما لن يستمتع كثيرا بمتابعة هذه المأساة العصرية تماما، وربما يجد أيضا غرابة في استخدام أسماء عائلة هيبونوم، بل وربما لا يستطيع أن يفهم تمسك أنتيغون بالتضحية على نحو ما فعلت. ولكن الفيلم يمضي على صعيد آخر، طارحا الكثير من التساؤلات حول العلاقة الملتبسة بين الشمال والجنوب، بين حكومات الشمال وقوانينه، وبين ما يجري في الجنوب من تداعيات قد تكون في معظمها نتيجة التناقضات التي ترسبت من عهود السيطرة الاستعمارية. نعيمة ريسي في دور أنتيغون، هي قلب الفيلم ومحوره، ووجودها يضمن للفيلم حيويته وتألقه بأدائها المذهل في دور يجعلها قريبة الشبه كثيرا من “جان دارك” معاصرة تضحي بحياتها من أجل ما تؤمن به. هذه ممثلة سيكون لها شأن كبير في المستقبل. بقي أن أذكر أن هذا الفيلم حصل على جائزة أحسن فيلم كندي في مهرجان تورنتو السينمائي، كما تقدّمت به كندا للرشيح لجائزة الأوسكار عن أفضل فيلم أجنبي، ولكنه لم يصل إلى الترشيحات النهائية.

مشاركة :