"التربية الكاملة الشاملة لمختلف الفنون منذ الصغر هي التي تنمي عند الأديب الأوروبي ذلك الإحساس بالتناسق الفني والذي يرفعه إلى هذه المرتبة من مراتب الخلق والإبداع، وإذا سألتني عما أعني بالتربية الكاملة، فإنني أجيبك: هي تربية جميع الملكات والحواس مجتمعة، فتربية ملكة العقل وحدها لا تكفي عند رَجُلِ الأدب والفن إن لم تصاحبها تربية حاسة البصر، وحاسة السمع، وحتى حاسة الشَّم والذوق، فالتربية الكاملة للحواس والملكات هي ما أسميه (الثقافة الكاملة). لا ينبغي لأديب أو فنان أن يترك حاسة من حواسه هملاً بغير تكوين.. عاطلة لا تؤدي عملاً" ( توفيق الحكيم ) *** أحيانا يكون العمل الإبداعي حاجزاً لما سواه عند المتلقي، إذ بعد الفراغ منه يجد متعة في التعايش مع ذلك العمل لكيلا يفسد تلك المتعة بعمل يتورط فيه. أحيانا تجد عندي مثل هذه الحالة مكاناً ملائماً فتركن عندي بكل راحة، خصوصاً عندما تسعفني بإشباع نهمي بعمل إبداعي ممتع وجاد، فكانت محطات توقف لاحصر لها، ولكن أشير إلى الماعات متفرقات من المسميات كاستدراج لدخول باحة الموضوع المراد، فقد كانت وقفات متمترسة عند(العجوز والبحر) لإرنست هيمنجواي، و(موبي ديك) لهيرمان ميلفيل، و(ضياع في سوهو) لكولن ويلسون، وثلاثية (دروب الحرية/ سن الرشد، وقف التنفيذ، الحزن العميق) لجان بول سارتر، (ثلاثية نجيب محفوظ/ بين القصرين، قصر الشوق، السّكرية) و(بلدي) لرسول حمزاتوف، و(زوربا) لكازانتزاكيس، (الجنرال في متاهته) لماركيز، و( البؤساء، وعمال البحر، وأحدب نوتردام ) لفيكتور هيجو، و(الحياة هي في مكان آخر) لميلان كونديرا، وغير ذلك من الأعمال الماتعة التي تحاصرك وتفرض عليك التمترس، ولكن الإنسان بطبعة يحب التحرك والبحث تبعا لكينونته كبشر تدفعه غريزة حب الاستطلاع، وكما يتطلب الواقع لمواكبته كل في ما سخر له، و(في بلاد الأشياء الأخيرة) لبول أوستر، وسميتها مدينة العجائب، كانت مساحة طويلة من الوقت دعت إلى التسجيل لكونها من الأعمال التي أحببت أن أقف عندها في عملية ما يشبه العرض المقتضب لما تحويه من غرابة تتمثل في الأخيلة والأحداث، فهي رواية يكون فيها الوقوف على عمل متكامل يعطي بعداً ذوقيا مختزلاً لمراحل من التنقلات والأحداث في صور غرائبية مخيالية يتلاعب بها الكاتب باتكائه على قاعدة عريضة من الثقافة القرائية المستمدة من الأعمال القديمة لكبار الكاتبين ممن أسسوا لعالم المزج بين الواقع والخيال في معالجات لأمور حياتية كانوا إبانها في "برجعاجيتهم" التي يطلون منها بأعمالهم الإبداعية، فالصور تتوالى في انثيال عجيب فهناك متقاطعات ومتضادات تحصل ولكن خيطاً طيعاً يتمدد وينكمش تبعا للأحداث ولا يفقد العمل توازيه واتساقه، حيث تبدأ بصور هي بحاجة إلى أحداث وأفعال، لكي تكون متكاملة عند النهاية، وعندما تقف عند آخر سطر بعد عناء من اختلاف الأشكال ومشاحناتها تتجسد أمامك صورة تامة ذات أبعاد وتأملات واضحات. فهذه البلاد التي ترسمها الرواية ليست شبيهة بمدينة إسماعيل كادارية (قصة مدينة الأحجار) ذات البيوت المائلة، بل أكثر المدن ميلانا، وكان أعلى البيوت يلامس أساس البيت المجاور الآخر، فقد كانت مدينة عجيبة، حيث كان في وسع الماشي في الشارع أن يعلق قبعته في أعلى مكان يمر به، وقد كانت أشياء كثيرة فيها أعجب من عجيبة، وأشياء أخرى تبدو وكأنها من مملكة الأحلام. فإذا كانت مدينة إسماعيل كادارية بهذه الغرابة والعجب، إذاً كيف ستكون بلاد مدينة بول أستر؟، ولكن من منا يعرف أنها شبه بلاد وليست مدينة فقط ؟سيلحف في المسارعة في فضول في كشف الغطاء عن تلك المدينة، وستكون الإجابة مفاجئة بالفعل لأنها حسبما يبدو حديث المحور في رسالتها إلى الآخر "لست أتوقع منك، أنت لم تر شيئاً من هذا حتى ولو حاولت فإنك لن تتمكن من تخيله. هذه هي الأشياء الأخيرة ترى نهرا جاريا اليوم وفي اليوم التالي يكون المجرى جافاً، وتشاهد منزلا في طريقك في اليوم التالي يضمحل، شارع كنت أجتزته البارحة ماعاد موجودا اليوم، حتى الطقس في تحول دائم متواصل، نهار مشمس يليه نهار ممطر. نهار مثلج يتبعه نهار ضبابي، حر ثم برودة، ريح ثم سكون، فترة صقيع مريرة، وبعدها اليوم وسط الشتاء بعد ظهيرة عطرة الضوء وحارة إلى درجة أنك تستطيع الاكتفاء بكنزة وبرمودا،لا تسلم بمنطق، شوارع قائمة في كل مكان أمامك، الناس يتطايرون كطائرات ورقية من شدة الرقة، وغريبة جداً هذه المدينة كل الغرابة من أين جاءت هذه الغرابة؟ من مخيلة كاتب كان يرى في التحليق كما الناس بواسطة أجنحة من خيال تراكم من إدمان قرائي أدى إلى تسام مخيالي لا واقعي يتماهى مع الفنتازيا ليرسم الصورة بالشكل الذي يدخل في دائرة السوريالية، وهاهي بعد مضي عقود عليها تعود مجددا في أعمال إبداعية حديثة فالتاريخ يعيد نفسه كما يتردد على لسان الكاتب الأميركي بول أوستر ومن يتأمل ذلك يجده في حياة البشر وأمزجتهم، فأشياء تعود ولكن بمسميات جديدة فقط، ولكنها تتماشى مع الواقع المعاش؟.
مشاركة :