ناموس الحياة وطبيعتها وبقاؤها الأبدي هي الاختلاف والتنوع والقبول والرفض والرأي، والرأي الآخر، وتزاحم الأقلام أكثر مما تتزاحم الأقدام، هذه طبيعة الحياة وبقاء حيويتها وديناميكيتها الذي يجددها ويبعث نشاطا طريا وقوة دافعة لوظيفتها إذا كانت مفيدة ونافعة نتائجها، وتلك طبيعة قائمة دائمة بين الناس لا تخص جيلا عن جيل ولا زمانا عن زمان، ولعلها هي التي تجعل للحياة طعما حلوا أو مرا، ومصيبا أو مخطئا، يرضى عنه فريق ويغضب منه فريق آخر، وحتى لو كان في بعضها ما يصدق عليه القول الشعبي المعروف (لو اتفقت الأنظار بارت السلع) وما أكثر السلع التي لا يروج سوقها ويرتفع شأنها إلا باختلاف الأنظار وتغير الأمزجة وصراع الآراء والدفاع عن الأفكار. والحوادث والأخبار التي تسود المشهد المعاصر في زماننا هي من أكثر الأفكار تنوعا واختلافا، وجدلا محتدما بين الأفراد والمجتمعات على كل المستويات الشعبية والنخبوية، لا يسلم فريق لرأي فريق غيره، ولا يذعن له فيما يقول وما يفعل، كل معتد بما يعرف، مؤمن بصحة ما يعتقد مصدق لما يظن، لا ينقطع عن محاولاته وتعزيز قدراته التي تتسع لها ساحة المجتمع على تنوع ما فيها من اختلاف وائتلاف، وليست ساحة المجتمع الواحد فحسب، ولكنه صراع العالم كله، حيث أصبح بين يدي المرء كل ما ينتجه العقل البشري وما يصوره ويحتفظ به من المعارف والأفكار والآراء والأطروحات والأضداد. وأصبح الانفعال بهذا الموج المعرفي لا تحده حدود ولا تقيده قيود ولكنه ملك مشاع للناس، وقضاياه وشؤونه مطروحة في الطريق مكشوفة للأنظار، وبعضه يتحول بفضل التقانية إلى دائرة كبيرة فيما يسمى قضايا الرأي العام، حتى إن حدثت في أقصى مشارق الأرض أو مغاربها، وكم من قضية تحدث بعيدا ويسمع اهتمام الناس بها وجدالهم حولها وانقسامهم في الحكم لها أو عليها، رغم أن بينهم وبين من يحدثها آلاف الأميال، والسؤال المشروع طرحه: هل هذا عارض صحي؟ أقصد الاهتمام بالقضايا العامة البعيدة، سواء للمجتمع الواحد الذي ترتبط قضاياه ومصالحه واختلافه عليها بمنفعة تحصل له أو مضرة يدفعها عنه، ولذلك يبحث عن صواب يعود في نهاية المطاف إلى ما يلبي حاجة المجتمع المعني ومتطلباته، أو هو اهتمام عام شامل قد لا يكون له نفع ولا ضرر على من يهتم به ويتابعه ويثير النقاش حوله؟ القسم الأول ضرورة لا بد منها، ولكن يجب أن تكون بشروطها التي سنتحدث عنها بعد قليل، أما القسم الثاني فالاهتمام به يعد ترفا معرفيا لا يضر تركه ولا يسر الحديث فيه، وهو فضول زائد على الحاجة، وإن شارك الناس به فمن باب القول المشهور: جهل به لا يضر وعلم به لا ينفع، وما أكثر ما يحدث تحت هذين الصنفين، أقصد الجهل الذي لا يضر والعلم الذي لا ينفع فيما يثير الناس من مشكلات وما يفتعلون من معضلات وما يقتتلون ويستميتون من أجله، وما أكثر الأمثلة والقصص والروايات والمواقف في العالم الذي نعيش فيه. أعود إلى القسم الأول وشروط الاختلاف المشروع والحق المقدس فيه. وأهم شرط هو مشروع الاختلاف وحرية الرأي لكلا الطرفين، بل لكل الذين يطرحون آراءهم ويدافعون عنها، دون التجريم أو مصادرة آراء المعارضين أو اختلاسها. مشروعية الخلاف المقبول تقوم على ركنين أساسيين، الركن الأول أن تتاح الفرص المتكافئة لكل منهم، وأن يعبر عن رأيه ويوضح حجته بحرية تامة حتى لو كان موضع الجدل من المسلمات، وأن يكون موضع الجدل مما يهم الناس وينتفع بالوصول إلى حقيقة فيه أو تحقيق مصلحة عامة، وألا تنطلق رؤية الخلاف من مسلمات المختلفين الذين لا يحيدون عنها ولو قام الدليل على بطلانها.
مشاركة :