دخل الرجل بخطى حثيثة إلى مكتب عقارات. قابل صاحب المكتب الذي بدوره أبدى له الود والبشاشة والترحاب الحار. كان الرجل متحمسًا جدًّا. شرح بحماس واستعجال عمله الشاق لسنوات طويلة؛ ليتسنى له شراء بيت أحلامه، وبدأ مباشرة بوصف ميزات هذا البيت الذي يود شراءه. كان صاحب المكتب أذنًا مصغية، ومستمعًا جيدًا. قال الرجل: أريده بيتًا صغيرًا، فيه «كراج» يسع سيارة واحدة، وفيه حديقة صغيرة، أو حتى مكان لشجرة واحدة وبعض الزهور. وأردف يقول بحماس: لقد عملتُ عشرين عامًا ليلاً ونهارًا بلا كلل ولا ملل لأجمع قيمة البيت الذي أحلم به. أجابه صاحب المكتب: سأفعل ما بوسعي لأحقق حلمك وطموحك في البيت الذي تريد، وغدًا سوف أتصل بك لتعاين البيت، وفي الغد سأخبرك كم سيكلف البيت الجديد. كان السمسار متيقنًا من أن الرجل مشترٍ حقيقي؛ فطلب من أحد المعاونين له أن يبحث عن بيت بهذه المواصفات البسيطة المطلوبة. في اليوم التالي، وحسب الموعد، جاء الرجل بمعية صاحب المكتب العقاري لمعاينة البيت. عاين البيت على عجل، وبقي يتأمل البيت شاردًا وهو يأخذ الصورة تلو الأخرى. وقف أمام مدخل الصالة، وأخذ صورة للممر الرخامي، وللزوايا المضاءة بالأنوار الخافتة، وصورة للمطبخ، وصورة لغرف النوم، ولدورات المياه المجهزة بالسيراميك الملون. لم ينتظر طويلاً، بل بادر بالكلام بعد أن حك رأسه وخده، ولامس لحيته أكثر من مرة: «لدي بعض الاستيضاحات: هل مواصفات البناء مطابقة للمواصفات المعمول بها؟ وهل البناء والأساس قد أشرف عليهما مهندسون معتمدون؟ وهل مواد البناء ومواد السباكة والكهرباء من النوع المعتمد والمطابق للمواصفات المحلية؟ وهل وهل وهل...؟». قال له السمسار: كن مطمئنًا، كل أسئلتك جوابها بنعم. امتلك البيت وأنت مطمئن، ولا يصيبك الشك والقلق. تم شراء البيت من قِبل الرجل، بعدها بأقل من سنة واحدة حدث ما لم يكن في الحسبان؛ لقد بانت التصدعات في الجدران، وكثرت تسربات المياه، وبانت رداءة السباكة، والتماسات الكهرباء، وبروز البلاط، وخسوف بعضه، وتغيُّر لون الدهان.. عندها تيقن هذا الرجل أن حلمة طويل الأمد صار قصير الأجل، وأنه وقع في المصيدة، وأن أحلامه طاحت وانهارت. لقد أصبحت خدعة البناء الخارجي وبهرجة التصميم الداخلي مثل ماكياج لجمال مزيف، ومثل فاتنة مسربلة بالعشق، لكنها غير حالمة.. يُقال: «الأشجار المثمرة تُرمى بالحجر»، لكن الواقع أن البيوت التي تُبنى بسرعة البرق، وتُباع بعجل، هي التي لا بد أن تُرمى بألف حجر؛ لأنها غير مثمرة، ولا شهية، وفيها من الخلل الفني والبنائي الشيء الكثير. إن القصص في هذا المجال كثيرة وعديدة ومتنوعة، ولها تشعبات في المرارة والشجن.. فالمشترون مصابون بالدوخة، والمنفِّذون غير أمينين، والجهات الرقابية لا بد أن تعترف بالفشل. إننا نطالب بوقفة جادة وتحرُّك سريع حيال هذه المسألة من الجهات المعنية كافة، كالبلديات والأمانات ومكاتب الهندسة، ضد أصحاب المصالح الضيقة. إن ما يحصل في البناء المستعجل عبث بامتياز، ومضيعة للوقت، واستعراض بهرجي، وخراب، وسقط متاع.. عليهم التحرُّك وفق اللوائح والتشريعات والأنظمة، وسينجحون، شريطة أن يبدؤوا. إن هذا الكلام ليس من باب العاطفة، لكنه من باب الإيمان بأن هذا الوطن العزيز يستحق منا النبل والأمانة في العمل، والتضحية في الإتقان؛ لمنع المزيفين من التمادي في الغش والتدليس.. وستكون النتائج فعّالة إذا ما تحركت كل الجهات المعنية، وسنشهد تحولات دراماتيكية في الوضع المشوَّه السائد، وسنشهد عودة البناء القوي الصحيح بدلاً من البناء الوقتي التالف الذي يأخذ شكل الجمال الخارجي لعمل داخلي قبيح.
مشاركة :