لم ير الرئيس الأميركي دونالد ترامب أيّ مبرر لعقود من الصراع العربي الإسرائيلي ولا لبقاء الفلسطينيين في تاريخ من سفك الدماء. رجل المفاجآت الذي اعتاد العالم فهم سلوكه ومواقفه ضمن رؤيته لبيزنس يختصر إدارة الشؤون والصراعات والنزاعات الدولية، لن يخبر أحدا هل سقط في زلة لسان حين كان يحتفل وحليفه بنيامين نتنياهو بإعلان صفقة القرن، داعيا المسلمين لا العرب إلى الاعتراف بدولة إسرائيل والتراجع عن خطأ ارتكبوه عام 1948. ما كشفه ترامب، بعد شهور طويلة من التلويح بصفقة القرن، لم يفاجئ الفلسطينيين على الأقل، فهو الذي ما زال يفاخر بمنحه إسرائيل ما لم يتجرّأ أيّ رئيس أميركي على فعله، بدءا من معاقبة السلطة الفلسطينية بإغلاق مكتب منظمة التحرير في واشنطن وإلغاء مساعدات مالية وتضييق الخناق على تمويل وكالة أونروا، إلى الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل والاعتراف بضمها الجولان المحتل، إلى إطلاق يدها في السيطرة على غور الأردن بشرعنة الاستيطان في ثلث الضفة الغربية. إن صفقة ترامب التي تساوي بين فلسطين و50 مليار دولار ومليون فرصة عمل، هي استكمال لوعد بلفور أو الجزء الثاني المنقح الذي وهبه الرئيس الأميركي لنتنياهو الواثق بما يعتبره انتصارات تاريخية يعد بها الإسرائيليين، لإسقاط نعته بالفاسد، والفوز في انتخابات آذار. ما يسعى إليه الحليفان عمليا هو وداعا فلسطين، ولا الرئيس محمود عباس ولا أيّ زعيم فلسطيني سيقبل بصفقة بيع، تتجاوز القدس وحدود 1967 التي تبنتها القرارات الدولية، وتشطب قضية اللاجئين. ما يعرضه سيد البيت الأبيض الذي يهب ويمنح مما ليس ملكه، هو صيغة ملتبسة ومتناقضة بين: دولة أو دويلة أو حكم ذاتي فلسطيني منزوع السلاح، عاصمته رمزيا في أجزاء من القدس الشرقية فيما كل القدس عاصمة للدولة العبرية، ولا سيادة ولا سيطرة أمنية للفلسطينيين إلا برضا دولة إذا اعترفوا بيهوديتها… دويلتهم في وعد ترامب تتنفس بأنفاق، وفضاؤهم محتل. غش الصفقة ساطع باختصار قضية فلسطين بمسألة فرص عمل واستثمارات في مشاريع اقتصادية، والغش الفضيحة غير المستترة أن يشطب ترامب بكلمات معدودة معاناة شعب قاوم لعقود من الزمن سرطان المستوطنات، وجهودا وقرارات لمجلس الأمن لم تمنح الاستيطان أيّ غطاء أو شرعية. أما إعلان تجميد مشاريعه لأربع سنوات فهو بمثابة مبادرة مفخخة أو وهمية في أفضل الأحوال… جاء الرفض الفلسطيني للصفقة بديهيا، فيما قدّم ترامب لإسرائيل مسبقا غطاء أميركيا لضم ثلث مساحة الضفة الغربية بما عليها من مستوطنات، وبدأت حكومة نتنياهو سريعا التحضير للمواجهة. صفقة القرن الأميركية شطبت مبدأ الرعاية الدولية لأيّ مفاوضات فلسطينية إسرائيلية، وتجاوزت كل القرارات الدولية ودور الأمم المتحدة واتفاق أوسلو الذي دفنته الدولة العبرية منذ سنوات. كما قفزت الصفقة فوق المبادرة العربية للسلام، المبادرة الوحيدة التي أجمع عليها العرب ولم تستبعد التطبيع مع إسرائيل إذا تمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه. والسؤال هو ما الذي بقي للفلسطينيين أو تركته لهم الصفقة ليفاوضوا من أجله؟ أيّ خيار تركته لهم؟ لا جديد في القول إن ما تشهده المنطقة من حروب واضطرابات وتدمير لكيانات دول باتت مصائرها في قبضة ميليشيات، كل ذلك دفع فلسطين بعيدا في أولويات الاهتمامات الإقليمية والدولية٠ وأما التحالفات وحسابات المصالح، كتلك التي تجمع الروس والإسرائيليين، فلعلها تفسر بهتان ردود الفعل على ما يعتبره ترامب فرصة للفلسطينيين لن تتكرر. وهل غريب عرض موسكو أن تتولى دور المنسق بينهم والدولة العبرية التي لم تكن يوما أقرب إلى الكرملين مما هي عليه اليوم؟ قواعد الاشتباك في سوريا مثال. روسيا بادرت سريعا إلى عرض ذلك الدور حتى قبل درس الصفقة. وترامب سيد الصفقات لم يع التداعيات المحتملة لإهداء الاحتلال الإسرائيلي كل ما يلزم لتأجيج المواجهات والعنف اللذين خفتا في ظل سنوات الانقسام بين الفلسطينيين، وتشجيع انفصال غزة. صحيح أن ميزان القوى والمعادلات الدولية والإقليمية رياحها لا تهبّ إلا على حساب المنطقة، ولكن رغم كل مأساوية فقدان التوازن، يبقى الخيار الأخير للفلسطينيين وحدهم. للكرملين أن يمالئ ترامب، لطهران أن تجد ذريعة ذهبية لتصفية حسابات مع واشنطن، ولأنقرة أن تكرر بصيغة معدلة حرصها على الحقوق المهدورة. كفى الله فلسطين شر المزايدات الإيرانية والتركية، وأوهام رجل الصفقات الفاشلة.
مشاركة :