فتحي الهداوي.. صرحٌ فني تونسي تهوي به "النهضة"

  • 2/4/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نادراً ما عرف فن التمثيل في تونس ممثلا يتقمص شخصياته بعشق، حد الثمالة، مثلما يفعل فتحي الهداوي. وإن كان الممثل يؤدي ويجسّد، فالهداوي يجعل شخصيته الحقيقية تحتضر حتى تحيا الشخصية التي يتقمصها، هو حالة فنية متفردة في تونس والعالم العربي. عرف الجمهور التونسي والعربي الهداوي على شاشة التلفزيون منذ أكثر من ثلاثين عاما، ومنذ ذلك الحين لم يخفت بريق النجم أبدا، لقد كان استمراره أفضل دليل على نجاحه. المثقف والسياسي كان الهداوي ممثلا نجما حتى اختار أن يكون سياسيا في حضرة حركة النهضة الإسلامية، وعن ذلك يقول معجبوه إنه “كان صرحا فهوى”، سقط القناع. كان يستطيع أن يبقى ممثلا له مكانته واحترامه الفني أمام جمهوره داخل تونس وخارجها. لكنه فضل المنصب الذي لم ينله. يصر الهداوي على أن لا علاقة تربطه بالنهضة لكنه على علاقة شخصية “خاصة” بزعيمها راشد الغنوشي كما له علاقات جيدة مع شخصيات سياسية من تيارات مختلفة. خولت هذه العلاقة الخاصة لفتحي أن يتم اقتراحه لتقلد منصب وزير الثقافة في حكومة الحبيب الجملي التي لم تحظ بثقة البرلمان في 5 يناير الماضي. ظهر الهداوي بين الوزراء في البرلمان في ذلك اليوم وقد وضع يده على فمه محاولا كتمان ضحكاته. صرح بعدها بأنه كان يضحك من مداخلة القيادية في التيار الديمقراطي التي كانت تجلد الحكومة المقترحة جلدا، معبرا في الآن ذاته عن فخره بالديمقراطية التونسية التي بات فيها رفض حكومة ممكنا. قبل أن يقبل الهداوي المنصب، كان قد عُرض على الممثل المسرحي الأمين النهدي والفنان لطفي بوشناق المنصب ذاته لكنهما رفضاه. صرح النهدي بأنه رفض تولي منصب وزير الثقافة قائلا “ليس تعاليا أو عدم ثقة في قدراتي على أداء المهمة، ولكني لا أجد نفسي في هذا المجال الرسمي، أفضّل التركيز على الإنتاج الإبداعي”. وأضاف النهدي أن الفنان يجب أن يكون حرا إلى درجة المعارضة معتبرا أن مكانه الصحيح مع الناس ولأجلهم ينقد ويعبر ويرصد الواقع التونسي في أعماله. الأفضل دومًا بدأت مغازلة الهداوي لحركة النهضة مبكرا. وفي حوار له مع جريدة “الفجر” الناطقة باسم حركة النهضة عام 2012 ، قال الهدواي إن ”فكر حركة النهضة خلافاً لما يقوله البعض يمكن أن يعطينا إضافات في الثقافة. وبالعكس نحن نريد أن نقوم بمسلسلات وأفلام تعبر عن الفكر الديني دون أي مشكل وأعتقد أن الوقت قد حان لذلك، ولأن الثقافة هي من جملة الأشياء التي تنظر إليها النهضة وتهتم بها“، مضيفاً أن “راشد الغنوشي رجل فلسفة”. وُلد الهداوي في 9 ديسمبر عام 1961 في حي شعبي بتونس العاصمة، وهو من خريجي المعهد العالي للفنّ المسرحي بتونس سنة 1986. حصد المجد مبكرا بسبب تميزه، إذ حل في المرتبة الأولى في دفعته، وحصل على جائزة رئيس الجمهورية آنذاك. انطلق في التمثيل في مسرح المعهد الثانوي ابن شرف تحت إشراف أستاذه حمادي المزي. ونال أوّل جائزة له كأفضل ممثل بالمهرجان الوطني للمسرح المدرسي سنة 1978 وحاز الجائزة ذاتها بعد عامين. الهداوي يصر على إنكار أي صلة تربطه بالنهضة. لكنه، في الوقت ذاته، يحتفظ بعلاقة شخصية "خاصة" مع زعيمها راشد الغنوشي، كما هي حاله مع شخصيات سياسية أخرى من تيارات مختلفة ثم انضم بعد ذلك إلى مسرح الهواة، والتحق بمجموعة ”المسرح المثلث“ بتأطير من الأستاذ المسرحي الحبيب شبيل، ليكون لاحقا عنصرا من عناصر مجموعة المسرح الجديد مع الفاضل الجعايبي والفاضل الجزيري وجليلة بكار وغيرهم من القامات المسرحية التونسية. وكانت له أدوار رئيسية في عدة أعمال مسرحية من بينها “العوادة” و”عرب” التي تم اقتباسها فيما بعد في عمل سينمائي يحمل العنوان ذاته، وشارك فيه الهداوي بدور البطولة. انطلق منذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات في مسيرة سينمائية وتلفزية درامية حافلة بالأعمال التونسية والعربية والأجنبية. وشارك في فيلم “حلفاوين” لفريد بوغدير وفيلم “صفائح من ذهب” للنوري بوزيد. هذا إلى جانب أدائه أدوارًا متنوعة في عدة أعمال سينمائية تونسية وعربية وأجنبية تعامل من خلالها مع مخرجين من فرنسا وإيطاليا مثل سارج موواتي وفرانكو روسي. أما حضوره في المشهد الدرامي التلفزي التونسي فقد كان لافتا في المواسم الرمضانية منذ مسلسل “ليام كيف الريح” لصلاح الدين الصيد، الذي جسد فيه دور شاب أنانيّ مستهتر، ثم مسلسل “غادة” لمحمد حاج سليمان الذي مثل فيه دور عفيف العاشق المجنون ليمينة، وتواصلت إطلالاته في الأعمال الدرامية التونسية الشهيرة مثل “صيد الريم” الذي جسد فيه دور صائد الغزلان، و“من أجل عيون كاترين” الذي جسد فيه دور الرايس نورالدين، و”ناعورة الهواء” الذي كان فيه زعيم عصابة. انفتح الهداوي على الدراما التلفزية العربية عبر مشاركات متنوعة في مسلسلات عربية تاريخية شهيرة تم عرضها في عدد من الفضائيات العربية مثل “تاج من شوك” لشوقي الماجري و”هولاكو” لباسل الخطيب و”الحجاج” لمحمد عزيزية و”أبو زيد الهلالي” و”خالد بن الوليد” وكذلك “عمر” لحاتم علي. يرى الكثيرون أنه الأفضل على الإطلاق في تاريخ الدراما التونسية، فنحن أمام فنان مجتهد جدا، يهتم كثيرا بالكيف على حساب الكم، ويلفت الأنظار مع كل دور جديد يقدمه، وأعماله تشهد له بذلك. وقد ترجمت تلك الأعمال المتفوقة إلى جوائز للشاشات التونسية والعربية من خلال 3 أعمال مهمة في رمضان 2019 بعد غياب موسم. ليشارك مؤخرا في العمل العربي الضخم “ممالك النار” لبيتير ويبر، وفي عملين تونسيين. الهداوي ليس ممثلا صامتا، إذ يكتشف شخصياته التي يؤديها تباعا أثناء التصوير وما لا يعجبه يغيره بالتشاور والاتفاق مع المخرج. يوصف بأنه “رجل ألمعي بارز دخل قلوب الجميع بعمقه وجدية طرحه وصدق إحساسه”. إلى جانب مسيرته الفنية الحاملة لتجارب متنوعة، شغل الهداوي أيضا مناصب إدارية في القطاع الثقافي حيث كان مديرا للمركز الثقافي الدولي بالحمامات، ومديرا لمهرجان الحمامات الدولي، ومسؤولا عن العلاقات العامة في أيام قرطاج السينمائية، ومديرا فنيا لأيام قرطاج المسرحية. وقد تحصل الهداوي، خلال سنوات عمله الغنية، على العديد من الجوائز في مهرجانات محلية ودولية. التسلية الخطرة لطالما مثل الهداوي الذي لا يحفظ حواراته في الأعمال التي يشارك بها، رقما صعبا، وقيمة ثابتة في المدوّنة الإبداعية التونسية والعربية، فحضوره فاعل ومؤثر في الأعمال ذات النفس التاريخي والاجتماعي على حد السواء. يتعامل الهداوي الذي لا يحفظ أدواره مع كل الشخصيات التي يجسدها بـ”منطق التسلية”، كما يقول. وتتم كتابة الحوارات المكلّف بها على لوحات ترفع في أماكن محدّدة. يؤكد “نعم. لست من هواة حفظ أدواري. اختيار مني وعن اقتناع تام بذلك“. ويقول عنه البعض إنه يقود “ثورة إبداعية” لكنه يؤكد أنها محاولة متواضعة منه للإسهام في إثراء المشهد الإبداعي. لا يكاد الهداوي يغيب عن الأعمال الدرامية التاريخية في إطار عشقه الكبير لها. وقد برز كثيرا في المسلسل التاريخي ”عمر“ الذي أدى فيه دور “أبي سفيان”. وقال “إنه غير دور أبي سفيان حين مثّل في المسلسل”، مؤكدا أن اختياره كان صائبا. وهنا تظهر ثقافة الهداوي الواسعة في شرحه لسبب اختيار شخصية أبي سفيان التي يقول عنها إنها شخصية مركّبة، فإذا كان ”عمر“ هو الذي أقام أسس المدينة الإسلامية فإن أبا سفيان ومعاوية هما اللذان أسسا الإمبراطورية الإسلامية الأموية. ويضيف الهداوي أن “أبا سفيان تجربة إنسانية. فقد شدّني في الرجل الشك الذي ساوره في تصديق أو تكذيب فكرة الدين الجديد. ولو كنت أبا سفيان فإني سأتصرف ليس فقط من خلال الأفكار بل من خلال الأفعال. شك أبي سفيان أمر صعب على الروح والوجدان. حاولتُ أن أعيشه، وأحسّه“. لا يزال الهداوي يحتفظ بمكانته في قلوب التونسيين، رمزا للفنان المتكامل صاحب الصيحة المفزعة والغضب المدوي والانفجار المشاعري. باح بسره الشخصي مرة قائلا “إن الممثل يبني شخصيته بطريقته“، ويدو أنه يفعل ذلك اليوم بالفعل، مع شخصيته الحقيقية، لكن خارج الشاشة وخارج خشبة المسرح.

مشاركة :