في منطقتنا العربية المليئة بالأفكار والأيديولوجيات الرافضة للفن والفنانين من النادر أن تجد توافقا كبيرا على حب فنان، توافقا جماعيا على أن مسيرته جادة ومهمة وأسهمت في صناعة ملامح أجيال كاملة، أحد هؤلاء الفنانين فتحي الهدّاوي الذي كشف رحيله عن حب كبير يكنه له أغلب التونسيين. ودعت تونس مساء الخميس واحدا من أهم فنانيها، الممثل فتحي الهدّاوي، الذي كان رحيله مفاجئا للغالبية، حيث ظن البعض أنه توفي جراء أزمة قلبية في حين اتضح أنه كان يعاني من أزمة مرضية لكنه اختار التكتم عليها وأن يرحل في صمت محافظا على صورته الكبيرة في أعين محبيه. ولم يحدث أن شهدنا خلال العقود الماضية مثل هذا الاتفاق على حب فنان، ففي حين يسب الفنان ويشتم ويهان ولا يزال البعض يراه مروجا للتفاهة والفسق ويمارس فعلا “محرما”، ضجت وسائل التواصل الاجتماعي منذ إعلان خبر وفاة الهداوي بتدوينات ومقاطع فيديو وشهادات وصور تنعى الراحل وتدعو له بالرحمة وتتحسر على فقدان تونس واحدا من أهم مبدعيها. وعلقت صوره على لافتات كبيرة في بعض شوارع وطرق العاصمة وهي خطوة لم نشهدها من قبل إحياء لذكرى فنان غيره. وفاة جاءت لتذكرنا أن الموت هو الحقيقة الوحيدة والمطلقة في الحياة، لكنه كما يقول محمود درويش “لا يوجع الموتى بل يوجع الأحياء”، فهو يذكرهم بعبثية هذه الحياة وقدرتها على الانتهاء في أي لحظة. فتحي الهداوي الذي توفي عن عمر 63 عاما، ولد في 9 ديسمبر 1961، وبدأ رحلته في المسرح في معهد ابن شرف تحت إشراف المخرج حمادي المزي، حيث منحه أدوارا في مسرحيتي ” “أقسمت على انتصار الشمس” و”حدث بابلو نيرودا قال” ثم التحق بمجموعة “المسرح المثلث” مع الأستاذ المسرحي الحبيب شبيل، ليكون لاحقا عنصرا من عناصر مجموعة المسرح الجديد مع المخرج التونسي الفاضل الجعايبي والمخرج الفاضل الجزيري والممثلة التونسية جليلة بكار وغيرهم من القامات المسرحية التونسية. وليصقل موهبته في التمثيل تابع الراحل تكوينه بالمعهد العالي للفنون المسرحية في تونس حيث تخرج فيه عام 1986. هكذا كان المسرح بوابته نحو احتراف التمثيل، وبعد تخرجه مثّل في عدة أعمال مسرحية أهمها “العوادة” و”عرب” التي اقتبست فيما بعد في عمل سينمائي يحمل العنوان ذاته وحاز فيه فتحي الهداوي على دور البطولة. ◙ فنان عاش ومات مكرما ساخرا من فكرة الرحيل بالقول “يجب أن نتقبل الموت.. فتحي حتى وإن مات بطل” ◙ فنان عاش ومات مكرما ساخرا من فكرة الرحيل بالقول “يجب أن نتقبل الموت.. فتحي حتى وإن مات بطل” ودخل منذ نهاية ثمانينات وبداية تسعينيات القرن الماضي عالم الفن السابع حيث شارك في العديد من الأفلام السينمائية، تقدر بنحو 25 فيلما تتوزع بين الطويل والقصير، تعاون فيها مع أشهر مخرجي السينما التونسيين أمثال فريد بوغدير والنوري بوزيد وإبراهيم اللطيف إلى جانب مخرجين من إيطاليا وفرنسا والمملكة العربية السعودية، وكذلك مخرجين من الشباب أبرزهم عبدالحميد بوشناق في فيلم “فرططو الذهب.” ورغم مشاركاته في العديد من الأعمال المسرحية والسينمائية إلا أن المسلسلات التلفزيونية هي أكثر ما عرف به لدى الجمهور، فهي طوال الأربعة عقود الماضية كانت المادة الفنية الأكثر وصولا للجمهور جراء انتشار التلفزيون. منذ 1991، بدأ نجم الفنان يسطع مع أول دور لعبه في مسلسل “ليام كيف الريح”، ثم لعبه دور منصور الشهير في مسلسل “العاصفة” عام 1993 يليه دور عفيف في مسلسل “غادة” عام 1994 وشخصية رضا في مسلسل “الحصاد” 1995، هذه المسلسلات بالذات تعرض بشكل دوري إلى الآن على القناة التونسية الثانية، ويلح الجمهور في طلبها وإعادة طلب عرضها من جديد. شارك أيضا في العديد من المسلسلات الشهيرة الأخرى، وربما أشهرها جميعا دوره في مسلسل “قمرة سيدي المحروس” عام 2004 حيث قدم شخصية الطبيب محمود، و”صيد الريم” عام 2008. في هذا المسلسل قدم الهداوي شخصية “رئيف” الرجل الذي تحول رمزا للشر والتحرش بالنساء والسلوكيات الانحرافية في تونس وبقدر ما تندر التونسيون على الشخصية طوال العقدين الماضيين بقدر ما أظهروا إعجابا بقدرة الممثل على تقمص دوره. إنها مفارقة عجيبة، لأول مرة يفصل المشاهد بين الشخص والشخصية ولا يمارسه كرهه وعنفه ضد الشخص جراء كرهه لشخصيته في المسلسل. بحسابات أهل الفن، قد تبدو المشاركة في نحو 20 مسلسلا قليلة مقارنة بنجوم آخرين في دول أخرى ويعيشون بظروف عمل مختلفة، لكن أن يشارك الهداوي في عشرين مسلسلا وأغلبها تقمص فيها أدوارا حفرت في ذاكرة المشاهدين لهي حصيلة مهمة لفنان صعد سلم الشهرة في دولة لا تراهن على الفن ولا تدعمه كما ينبغي ولا يزال الإنتاج الدرامي موسميا مرتبطا بشهر رمضان. والدراما التلفزيونية منحته جواز سفر نحو اعتلاء قمة الفن التونسي ومنها إلى خوض غمار التجربة عربيا وغربيا، وأكثر من منحته مساحة كبيرة ومهمة للعب أدوار لا تنسى، كانت الدراما التاريخية، وخاصة الدراما السورية، التي رأى صناعها أن الهداوي ممثل قادر على الإقناع ويمتلك موهبة مهمة أهلته لتقمص شخصيات أشهر القادة في التاريخ العربي والإسلامي. وكانت له مشاركات في مسلسلات “هولاكو” و”الحجاج” و”أبوزيد الهلالي” و”الحسن والحسين” و”المرابطون والأندلس” و”الإمام” و”عمر” و”ممالك النار”، وتعاون مع مخرجين سوريين وأردنيين مثل باسل الخطيب وحاتم علي وناجي طعمي وعبدالباري أبوالخير. بين تونس وسوريا وأراض أخرى احتضنته وراهنت على موهبته، أثبت الهدّاوي براعته في تجسيد الأدوار المركّبة، حتى صار النقّاد يصفونه بأنه متقمّص بارع، إنه يتلون بسهولة وإقناع بين التراجيديا والكوميديا، يمتلك قدرات صوتية مبهرة، ولم تكن تونسيته عائقا أمام شهرته عربيا، بل كان متمكنا من اللغة العربية ولغات أجنبية أخرى. حاز الهدّاوي على عدد من الجوائز في مهرجانات محلية ودولية، منها جائزة أفضل ممثل مساعد في أيام قرطاج السينمائية عن دوره في فيلم “الحب الحرام” للمخرج نضال شطة، عام 2000، وجائزة أفضل ممثل مساعد في أيام قرطاج السينمائية عن دوره في فيلم “باب العرش” للمخرج مختار العجيمي عام 2004، وجائزة أفضل ممثل وجائزة نجم رمضان في حفل جوائز رمضان الذي نظمته إذاعة موزاييك أف أم بتصويت الجمهور عام 2013، كما جائزة أفضل ممثّل في مهرجان وهران للفيلم العربي عام 2013 في الجزائر، وجائزة أفضل ممثل لدوره في مسلسل “ناعورة الهواء” في حفل جوائز رمضان عام 2014. ◙ الدراما التلفزيونية منحت الهدّاوي جواز سفر نحو اعتلاء قمة الفن التونسي ومنها إلى خوض غمار التجربة عربيا وغربيا يقول الروائي الأميركي في كتابه “العراب” الذي تحول إلى واحد من أشهر الأفلام السينمائية “الرجال العظماء لم يولدوا عظماء، بل ينمون عظماء” وفتحي الهدّاوي واحد من هؤلاء الرجال، ولد في بيئة تونسية شعبية تشبه حال النسبة الأكبر من الشعب، لكنه صنع من نفسه رجلا/ فنانا عظيما، فنانا ذا كاريزما مميزة، صاحب هيبة وحضور طاغيين، يترفع عن الخوض في كل كبيرة وصغيرة، ملتزما بفنه، كل دور جديد يلعبه يجد إشادة واسعة من الجمهور التونسي، حتى أدوار الشر عززت شهرته. هذه التجربة اختصرها الممثل والمخرج التونسي الشاذلي العرفاوي في إحدى تصريحاته بالقول “فتحي الهداوي قد يشتغل 5 دقائق ضمن مسلسل من 30 حلقة، ويكون هو نجم المسلسل، فهو يمتلك تقنيات وموهبة كبيرة جدا”. هالة كبيرة اكتسبها الفنان وحاول طوال حياته الحفاظ عليها حيث لم يخلط الفني بالشخصي، وأخفى كل حياته الشخصية عن الإعلام والسوشيل ميديا، ملتزما بصورة الفنان وتقديمها شخصية عامة يسير بها بين عامة الناس بينما لا تعرف فتحي الإنسان سوى العائلة وبعض الأصدقاء ومن شاركوه رحلة الإبداع. موهبة استثنائية وتجربة جعلت عبارة “اش تسخايل روحك (ماذا تظن نفسك)، فتحي الهدّاوي” أو (فلان يظن نفسه فتحي الهدّاوي) عبارة تتكرر على مسامع العديد من المشتغلين في التمثيل أو حتى الوسط الفني والصحفي، ليس للاستنقاص من أهمية الفنانين لكنها تركز على قيمة الهداوي، الفنان الذي راكم خلال أربعة عقود تجارب مميزة في المسرح والسينما وتحديدا في المسلسلات التلفزيونية التي دخلت بيوت التونسيين وجمعتهم خلال السهرات الرمضانية. هذه المراكمة للتجربة والنجاح في سرقة قلوب التونسيين جعلاه الممثل الأكثر طلبا ضمن المسلسلات الرمضانية تحديدا، فمن الصعب أن تجد عملا دراميا نجح خلال السنوات الماضية لم يكن الهداوي أحد أضلعه الرئيسية، والشخوص التي يلعبها تضيف للمسلسل، وقدرته على التقمص تضفي الكثير من الإثارة والواقعية والجذب لأي مسلسل عمل ضمن طاقمه. لكنه كان يقيم مسيرته بنظرة مختلفة، ففي تقييمه لما قدمه من فن كان آخر ما قاله الراحل “أجمل الأعمال التي لم أقم بها بعد” الذي استشهد فيه ببيت للشاعر ناظم حكمت “أجمل الكلام ما لم أقله بعد.” تجربته أيضا جعلته حاضرا دائما في اقتباسات التونسيين الذين يعودون إلى أقوال شخصياته في المسلسلات ليأخذوا منها حكما تخص الشأن الخاص والعام، ومن أشهر ما يردد على لسانه قوله في أحد أعماله “يوم تصبح للعرب كرامة وحقوق، حينها يمكنهم أن يحرروا فلسطين.” آفة الفنان التونسي وغضبه الدفين أنه يعيش دون أن يحظى بالتكريم الذي يستحق والذي يحصل عليه عادة بعد الوفاة، وأن فنانين يعملون ويرحلون والدولة لا تزال عاجزة عن إقرار قانون الفنان وتنظيم القطاع الهش، تاركة العديد من الرواد ينهشهم الفقر والحاجة والنسيان، لكن فتحي الهدّاوي فنان عاش ومات مكرما، يحظى باهتمام شعبي بتجربته حتى وإن غفلت عنها الجهات الرسمية. عاش متقبلا لفكرة الرحيل ساخرا منها بالقول “يجب أن نتقبل الموت..فتحي حتى وإن مات بطل.”
مشاركة :