الجميع يتحدثون عن مطالبة زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي بحكومة وحدة وطنية موسعة لا تستثني أحدا.. النهضة، التي طالبت برفع العتبة الانتخابية لإقصاء معظم الأحزاب التونسية الصغيرة خارج المشهد السياسي، تطالب أيضا بتوسيع دائرة المشاورات التي يجريها الفخفاخ، لتشمل حزب نبيل القروي قلب تونس. وهذا يثير أكثر من علامة استفهام. لماذا يصبح الحزب الذي اتهمته النهضة بالفساد قريبا من قلبها فجأة؟ حركة النهضة، وعلى رأسها راشد الغنوشي، أتقنت اللعبة السياسية، بينما الآخرون يتلهون بالصغائر، وحالها اليوم مثل حال أبي الطيب المتنبي عندما قال: أنام ملء جفوني عن شواردها، ويسهر الخلق جرّاها ويختصم. يكاد يتفق الجميع على أن زعيم النهضة أفضل من يمارس السياسة في تونس، حتى خصومه يقرون بذلك. فالسياسي لا ينشغل بالتفاصيل الصغيرة، بل يتفرغ للأهداف البعيدة. وهذا ما يفعله الغنوشي. لماذا يصر إلياس الفخفاخ، المكلف بتشكيل الحكومة من قبل الرئيس، على تقريب الأحزاب الثلاثة التي كانت وراء إسقاط حكومة الجملي الذي كلف من قبل رئيس البرلمان التونسي راشد الغنوشي؟ بالطبع الجميع يعلم أن هذه الأحزاب هي حركة الشعب والتيار الديمقراطي إضافة إلى حزب يوسف الشاهد، تحيا تونس. وبالمقابل، يصر الفخفاخ على إقصاء حزب نبيل القروي، قلب تونس، والحزب الدستوري الحر عن مشاورات تشكيل الحكومة. لم يكن صعبا على النهضة أن تشتم رائحة طبخة سياسية يعدها الفخفاخ لصالح الرئيس قيس سعيد، الذي باتت الحركة تخشى تفرده بالحكم، بعد أن أثبت الرئيس التونسي المنتخب قيس سعيد أنه رجل طموح، وأن العاقل من يحسب له ألف حساب. وبينما أدركت النهضة ذلك، تركت الآخرين ينعمون بصورة خاطئة، بناها إعلام شعبوي حول رجل قرطاج. ويمكن قراءة إصرار النهضة على إشراك قلب تونس في الحكومة المقبلة، بطريقة أخرى. فهي تصر على وجود ما أسمته بحزام سياسي قوي من حولها، لا يستثني إلا من استثنى نفسه، حسب تعبير الناطق الرسمي باسم حركة النهضة عماد الخميري، الذي أكد أن حزبه لا يزال متمسكا بتشريك حزب قلب تونس في الحكومة. لماذا هذا الإصرار على قلب تونس؟ التفسيرات السابقة تعرض الظاهر من قمة الجبل، أما ما خفي منه فهو أعظم. وجود قلب تونس والدستوري الحر في تشكيلة الحكومة، قد يقلل بعض الشيء من نصيب النهضة في توزيع المناصب الوزارية، التي يعرضها الفخفاخ، وحدد عدد أعضائها بـ27 وزيرا، ولكنه يمنح المشاركين حزام أمان، ويفرق الأخطاء والفشل بين الأحزاب، فلا يعلم الناس إلى أي حزب يوجهون اللوم، في حال فشل الحكومة أو عجزها عن تنفيذ برامجها. وجود معارضة قوية في البرلمان، تضم قلب تونس والدستوري الحر، ليس بالأمر السيء، بالنسبة لتونس، ولكنه سيء بالنسبة للأحزاب الحاكمة، التي تضع احتمالات كبيرة للفشل، خاصة في ظل وضع اقتصادي صعب على المستوى الداخلي والمستوى الدولي. أيّ حكومة مقبلة، مهما كانت الكفاءات التي تضمها، لن تستطيع أن تحوز على رضا التونسيين جميعا، الذين يتوقعون منها حلولا سحرية لمشكلات متراكمة، يصعب حلها في دورة رئاسية وبرلمانية واحدة؛ أيّ حكومة قادمة ستكون مطالبة باتخاذ قرارات وحلول مؤلمة لإنقاذ الاقتصاد على المستوى البعيد. ضمن هذا المنظور فقط، يمكن فهم إصرار حركة النهضة وزعيمها راشد الغنوشي على إشراك قلب تونس والدستوري الحر، لأن وجودهما في صفوف المعارضة هو خدمة مجانية تقدم لهما، وتعود عليهما إيجابا في أي انتخابات قادمة. التونسيون يقولون إن “الشنقة مع الجماعة خلاعة”، أي نزهة، والفترة القادمة في تونس لن تكون نزهة، بل هي “شنقة”، ومن هنا إصرار البعض على دعوة قلب تونس والدستوري الحر مشاركتهم النزهة. يبدو أن الأحزاب تعمل بالنصيحة التي تقول قرّب عدوك منك؛ وفي السياسة يصح ذلك أكثر مما يصح في الحياة اليومية. لعبة شد الحبل لن تنتهي عند هذا، هناك خيارات أخرى أمام اللاعبين، الحركة الأولى فيها للاعب قصر قرطاج، قيس سعيد، بإمكانه في حال عدم موافقة البرلمان على حكومة الفخفاخ، الرهان على دعوة لانتخابات تشريعية جديدة، تعيد تشكيل المشهد السياسي، لا نعلم من يكون فيها هو الرابح. أو يختار تثبيت المشهد الحالي، بالإبقاء على حكومة يوسف الشاهد لتسيير الأعمال. الخطوة التي سيقرر الرئيس التونسي قيس سعيد اتخاذها، إلى جانب الخطوات التي سيتخذها اللاعبون الآخرون، ستكون مدروسة ومحسوبة لضمان مصالحهم. أما مصلحة تونس والتونسيين ستترك للغيب، إلى أن تنقشع سحابة الغبار عن أرض المعركة التي تخوضها الأحزاب.
مشاركة :