ظل المسلمون في الأندلس ثمانية قرون (700 – 1492 ميلادية)، أبدعوا حضارة إنسانية تستند إلى بناء عقلي، وتطوير علوم اجتماعية وطبيعية، وتركوا تراثا أدبيا وفلسفيا ومعماريا شاهدا على المراحل التقليدية لنشوء الدول وارتقائها واضمحلالها. ولكن هذا الاضمحلال، على الضفة الأخرى، يسمّى تحريرا واستعادة لأرض احتلها المسلمون، ورأى أهلها ضرورة الخلاص، وكانت الأثمان باهظة، والانتقام غير مسبوق بتطهير عرقي وديني، واستئصال للسان العربي، والتلصص على إقامة الشعائر. ومنذ عام 1492 لم يضع العقل العربي نفسه مكان الطرف الآخر، ويواجه نفسه بالحقيقة، ويناقش لحظة “الدخول”، لا أسميها غزوا أو فتحا، فلا يتفق الطرفان على المصطلح، وإن اتفقا على واقعة عبور جيش أجنبي لمضيق حمل اسم جبل طارق. وترتب على امتلاك القوة تغيير شامل، ثقافي وديني وسياسي واجتماعي. ثم كان الخروج متوقعا، وذلك من طبائع الأمور، فلم يشهد التاريخ بقاء أبديا لعنصر دخيل يحتمي بجيش، أو هو نفسه الجيش، إلا إذا انصهرت عناصره بأهل البلاد، ولم تظل مجرد طبقة تتسلح بالعزلة عن الشعب، تملك وتحكم. وأحيانا توهم القوة بطفرة في صيرورة التاريخ أو خلخلة لقوانينه، كما جرى لهستيريا الاستعمار الفرنسي للجزائر، إذ ظل الجنرال شارل ديجول ينكر الثورة الجزائرية ويؤكد أنه يدافع عن الشرف الأوروبي. خطب ديجول عام 1959 في جيشه قائلا “إننا نعيش تمردا دام خمس سنوات، وخسارتنا للجزائر كارثة لنا وللدول الأوروبية”. وما كان ليخرج إلا بعنف مقدس شاركت فيه الملايين، وانتصرت ثورة المليون ونصف المليون شهيد. لم تعتذر فرنسا عن فظائعها في الجزائر بداية من مجازر 1945، ولم يعتذر الإسبان والبرتغاليون عن جرائمهم تحت ظلال الكتاب المقدس في بلاد سميت الأميركتين، أبادوا فيها شعوبا مسالمة سمّيت الهنود الحمر. ومن المفارقة أن المسيحية، انتشرت بتناقل تعاليم السيد المسيح، وسريان الأشواق إلى العدل والحرية من بلد إلى آخر. ومع تحوّل أي دين إلى مؤسسة يستباح كل شيء باسم الدين، وتشاء حكمة التاريخ أن الحروب الوحيدة المقترنة برمز ديني هي الحروب “الصليبية”. أراهن على لحظة إلهام تنير بصائر رموز الأديان التي مارست غزوا، فيتفقون على وثيقة اعتذار تبرّئ الأديان من الهوس بثروات الآخرين لا يحتاج دين إلى نشر تعاليمه بقوة السلاح. وقد وجدت دعوة الإسلام سبيلها بالحسنى إلى أقصى الشرق وإلى أعماق أفريقيا. ولا أظن شعبا دعا المسلمين إلى تخليصه من قوة استعمارية، ولم يزعم أحد أن الأسلحة الهجومية التي حملت جيوش المسلمين إلى الشرق والغرب من وسائل الدعوة إلى سبيل الله “بالحكمة والموعظة الحسنة”. وهكذا يكون احتلال بلد ما، وإجبار مواطنيه على دفع الجزية أو اعتناق دين الغازي، إكراها سياسيا تلجأ إليه القوى الصاعدة، في بحثها عن موارد اقتصادية خارج حدودها. وإذا صادف أن احتل الغازي بلدا مسلما، كما جرى مع السلطان الدامي سليم الأول، فلن يتحامق بإعادة أسلمة المسلمين، وإنما يفرض عليهم الجزية التي التزمت مصر بأدائها سنويا إلى الباب العالي. لسلوك الغزو سياق “تاريخي”، ولم يبتدع المسلمون الحروب الهجومية التي يليها البقاء. ليس هذا مسوّغا، وإنما هو تفسير موضوعي يعفينا من الاعتذار، ويكبح عن المهزومين شهوة الفخر الكاذب. ولم يكن الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر موفّقا في زهوه، في “مؤتمر الأزهر العالمي للتجديد في الفكر الإسلامي” نهاية يناير 2020، بوضع المسلمين الأوائل قدما في الأندلس وأخرى في الصين، “لأنهم وضعوا أيديهم على مواطن القوة في هذا التراث”. هذا خطاب يمنح الذين ظل الدعاة يلعنونهم في خطبة الجمعة، باعتبارهم من المغضوب عليهم، شرعية وضع قدم شرقيّ الأطلسي في الساحل الأفريقي وأخرى غربي المحيط، بفضل التراث المسيحي أيضا. ويرتبط بعقلية الغزو تراث بشري سما به البعض إلى مرتبة القداسة، وهو فقه الغزو، والرزق تحت ظلال الرماح، واستباحة الإغارة، والسبي وبيع الرقيق لإنعاش الاقتصاد في العالم الإسلامي، كما يدّعي أبوإسحق الحويني. وإذا كان الحويني هاويا، خارج قواعد المناهج البحثية، فكيف نفهم تصريحا تلفزيونيا استنسخته أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر من أضابير الفقه المكتوب في ضوء الصعود السياسي للدولة الإسلامية، ونقلته إلى سياق جديد يجرّمه؟ قالت الدكتورة سعاد صالح إن أسيرات الحرب ملك يمين “مشروع”، للجيش أو قائده، لإذلالهن، ولكي “يستمتع بهن كما يستمع بزوجاته.. الآيات القرآنية ما زالت موجودة ليس للتفعيل ولكن للتنفيذ إذا حصلت شروط الإسلام في هؤلاء”. ولم تعتذر عن هذا التصريح، ولم تُجب عن سؤال افتراضي إذا انعكست الأوضاع ووقعت المسلمات أسيرات لدى العدو؟ أراهن على لحظة إلهام تنير بصائر رموز الأديان التي مارست غزوا، فيتفقون على وثيقة اعتذار تبرّئ الأديان من الهوس السياسي بثروات الآخرين، من دون أعباء نفسية على جيل حاليّ لا يتحمل أوزار الأسلاف. ساعتها لن يقرن الشعراء الأندلس بالجرح الفلسطيني، ولن يحلموا باستعادتها؛ بحجة أن لأجدادنا فيها تاريخا، فمن غير قصد يعطون العدو الإسرائيلي سلاحا أخلاقيا يجادل به، ويشهر وجودا عابرا لأسلاف أيقظهم نابليون بونابرت وهو يخاطب أحفادهم بالنفير إلى فلسطين “أيها الإسرائيليون، أيها الشعب الفريد، الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط… إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل… إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به، ويمشي بالنصر أمامه وبالعدل وراءه، قد اختار القدس مقرا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلا بمدينة داود وأذلتها. يا ورثة فلسطين الشرعيين.. إن الأمة الفرنسية التي لا تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها، تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء”. لو وعى الجواهري هذا الخلط ما قال عام 1929 في قصيدة “فلسطين الدامية”: فاضت جروح فلسطين مذكرة/ جرحا بأندلس للآن ما التأما وما يقصّر عن حزن به جدة/ حزن تجدده الذكرى إذا قدما يا أمة غرّها الإقبالُ ناسية/ أن الزمان طوى من قبلها أُمَما سيُلحقون فلسطينا بأندلس/ ويعطفون عليها البيت والحرما واليوم يأتي من إسبانيا صوت رصين، يجسده المستعرب بدرو مارتينث مونتابث الذي يدافع عن قضية فلسطين “لأنني أدافع عن الحرية… والكفاح في سبيل فلسطين بالنسبة لي هو كفاح في سبيل الحرية والكرامة الإنسانية، ومن وجوه عدة يمثل وضع الفلسطينيين أقصى حالات الاعتداء على الحرية والكرامة”. وفي سيرته التي كتبتها الدكتورة أثير محمد علي، وصدرت في القاهرة بعنوان “فسيفساء لذاكرة حاضرة.. حوار المستعرب الإسباني بدرو مارتينث مونتابث”، يقول “لا يمكن تفسير إسبانيا من دون الأندلس”، ويدعو إلى تجاوز الجراح المشتركة، فالأندلس “تاريخ مشترك يتقاسمه الإسبان والعرب… محاولة الوصول إلى تفاهم واقعي ومحترم ومخلص ويتوافق مع ما كان في التاريخ، يجب أن تنزاح بعيدا عن كل نغمة سياسية”. وفي هذا الصوت العاقل فصل المقال، وختامه.
مشاركة :