في مقال سابق تحدثتُ عن محركات الإبداع لدى العقل السلفي، وأومأتُ إلى سؤالين، أحدهما: ما هي محركات الإبداع لدى غير السلفيين، والآخر: وكيف لم يكن للسلفيين من الإبداعات إلا أقلها قياسًا بما هو موجود على سطح البسيطة اليومَ، وأحلتُ في ذلك لمقال سابق لي في صحيفة الوطن هو«السلفية والديكارتية» وسوف أبسط القول هنا شيئًا ما عن مُعَوِّقات السلفيين عن الإبداع في علوم إعمار الأرض، وأعني بهن ما ليست علوما شرعية كالحديث والفقه والاعتقاد، وما يخدمهن من علوم اللغة وما شاكلها، لأنه لا جدال في إبداعهم في هذه العلوم، وقبل ذلك، أُعَرِّجُ على مداخلة الأُستاذ محمد السعد حول مقالتي «السلفية والإبداع» وخلاصة ما اعترض به أن الإبداع السلفي ليس له مجال إلا اللغة، محتجًا عليَّ بكلام للشافعي وبشيءٍ مما قلتُه في أحد لقاءاتي عن كون منهج السلف هو عدم تجاوز النصوص، وبعد شُكري الجزيل له على هذه المداخلة، أقول: إن اللغة - أيَّ لغة - ليست كلمات فارغة، بل هي أوعيةُ المعاني، فإذا التزمتَ النص الشرعي وجدتَّه رحباً مُطْلِقًا لعنان الفكر دافعًا للعمل، وإذا أَنفته وتعلقت بنصوص البشر وما يبتدعونه في الدين حاصرتك تلك النصوص وضيقت عليك وحَجَّرَت ما وسعه الله تعالى، وهل ضيق على أُوروبا وأوقعها في عصور الظلام من عهد اليونان حتى تعرفت على المسلمين عبر الحروب الصليبية إلا التزامُها نصوصَ البشر التي زعم لها قساوستُها أنها كلامُ الله، وهل فَتَحَ لها نافذةَ البحث والعلم إلا اطِّراحُ تلك النصوص البشرية، وإعمال العقل بالبحث، وحقيقة ما صنعوه مقتضى النص القرآني والنبوي الذي يلتزمه السلفيون وهو يأمر بالتفكر والتدبر والأخذ بالأدلة وعدم التقليد المحض، وهذا الاتجاه مما تعلمَتْه أوروبا من حربها الصليبية مع المسلمين ومن علاقتها بالأندلس. وبعد ذلك، وبعد إعادة التذكير بما كتبتُه عن محركات الإبداع عند السلفيين أعود لأقول: إن مما أعاقهم عن أن يكونوا أكثر إبداعًا في علوم عمران الأرض أمور: أحدها: انشغال أذكيائهم في القرون الثلاثة الأُوَل من الهجرة بنشر الإسلام وحفظِه، فلا تكاد ترى ذكيًّا نابهًا متحفزًا للمعرفة إلا وهو إما منشغل بالدعوة إلى الله تعالى والجهاد في سبيله، وإما بحفظ الكتاب وقراءاته المتعددة وحفظ الحديث وجمع الأسانيد ومسائل الفقه، وكان ثمرةُ جهودهم تلك أن امتد عالمنا الإسلامي من وسط الصين شرقًا وقازان في روسيا شمالًا، إلى سواحل البرتغال غربًا، في زمن يسير جدًا قياسًا بأعمار الحضارات وانتشار الأديان، وكذلك بقاءُ الدين بأركانه وفرائضه وسننه وسائر تعاليمه، دقيقِها وجليلِها، لم يَفُتْ من ذلك شيء مع تقادم الأعصار وتغير أحوال الناس. وكيف لمن كانت هذه حالهم من الشُّغل بهذه الأمور الجليلة الانشغالُ فيما هو دونها، مع أن ذلك العهد كان زاهرًا أيضًا بالابتكار في العلوم النظرية والعملية وفنون الإدارة وما إلى ذلك، لكنه أقلَّ كثيرًا مما تُتِيحُه مبادئ الإسلام الحق النقي الذي هو صميمُ دعوة أتباع المنهج السلفي. الثاني: لم يكد القرن الثاني ينتهي حتى ابتُلي السلفيون يتسلط أهل البدعة عليهم، إذْ راجتِ البدعُ وأصبحت هي شعار المسلمين، وانشغل السلفيون منذ ذلك الزمن بالذود عن عقيدتهم، بل عن أنفسهم التي أصبحت منذ ذلك التاريخ مهددة بالتنكيل، لأن السيادة الاجتماعية والعلمية والسياسية أصبحت بيدَي أهل البدعة الذين أسهموا بقوة في تعطيل حركة الإبداع الإسلامي. صحيحٌ أن المتوكل ومن استُخلِف بعده من ذريته كانوا في الأغلب حنابلةً سلفيين، إلا أن ما خَلَّفَه الخليفة المعتصم المعتزلي من تسليط الأتراك الجهلاء الجفاة الغلاظ على المسلمين أَثَّرَ في قوة الخلافة أَثَرًا كانت عاقبتُه انحدار عسكري وقِيَمِي وعقدي انتهى بالانتصار الصليبي بعد ذلك بمئتي عام، وظل هذا الاضطهاد قائمًا حتى ظهور الدولة السعودية الأولى ودعوتها المباركة التي أنار الله بها بصائر المسلمين جميعًا وعَرَّفَهم حقيقة الدين ونفض غبار البدع والتضليل عن عقول المسلمين، وقامت بتلك الدولة الحُجَّة وظهرت بها المحجة {فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها}. وفي هذه الأعوام الأخيرة وبسبب التضليل العالمي الذي دعم مناهج الغلو والتطرف لينسبها إلى السلفية بدأت العودة إلى اضطهاد السلفية في حملة توصف بالدولية، تشترك فيها الدول الكافرة الاستعمارية والدول المسلمة ذاتُ الأنظمة الليبرالية، وأقطاب المذاهب المنحرفة من صوفية وكلامية وشيعية، أضف إليهم الجماعات الإسلامية المسيسة، كل هؤلاء يجتمعون اليوم ليرموا السلفية عن قوس واحدة والله المستعان على ما يصفون. الثالث: إيثار العلم الأُخروي على الدنيوي، فلما كان المستقرُ حقيقةً وفي العواطف والأذهان أن علوم الدين عمرانٌ للآخرة، وعلوم الدنيا عمرانٌ للأرض، كان كثير من مَهَرَة الأذكياء قديمًا وحديثًا، يؤثرون الانشغال بعلوم الدين على المعارف التقنية، فيقتصر إبداعُهم على ما يشغلون به أنفسَهم من معارف الدين، إذ يؤثرون بذل أوقاتهم فيها على بذلها في علوم العمران، وساعد على ذلك قول كثير من المفسرين بأن المراد بالعلماء في قوله تعالى: (إنما يخشى الله من عباده العلماء) وبالذين أوتوا العلم في قوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) إنما هم علماء الشريعة، فساعدهم هذا في إيثار علوم الشرع ببذل الجهد والوقت، وليس ذلك مقتصرًا على السلف الأوائل، بل حتى في عصرنا الحاضر نَجِد الأكثر تدينًا من الشباب وإن ارتفعت علاماتُهم في المرحلة الثانوية يتوجهون إلى علوم الشرع، ومن تَخَصَّصَ منهم في علوم عمارة الأرض من الأطباء والمهندسين والكيميائين ونحوهم يبذلون الجهود المضنية لتحصيل علوم الشرع والجمع بينها وبين ما هم فيه، غير مبالين بما يلحقهم جراء ذلك من المشقة والعناء، والحقُ أن كثيرين منهم نجحوا في الأمرين، فكانوا أعلامًا في تخصصاتِهم العملية، أعلامًا في علوم الشريعة، وكثرون منهم وكثيرات أيضًا ولاسيما من أبناء وطننا المملكة نالوا ونلن حظا عظيماً من المعارف العصرية هيأتهم لجوائر عالمية ومناصب مؤثرة محليًا ودوليًا والحمد لله رب العالمين. ومما ينبغي إعماله وعدم إهماله ضرورة انصراف الشباب النابه بشكل كبير إلى بذل الجهود والأفكار في العلوم العصرية وحصد الجوائز وبراءات الاختراع فيها، فإن ذلك يعد اليوم من أعظم منابر الدعوة إلى الإسلام الحق الذي يتوجب على الأُمَّة جمعاء تَقديمه للناس، وخير من يُقَدِّمه الشباب السلفي، وهم الذين يؤمنون بدين الإسلام غضًّا كما أُنزل، لم تشبه شائبة الابتداع واختراع العبادات تلو العبادات حتى تُغطي الخرافات على بهائه وجماله ويُسره ونضارته، كما لم تشبه شائبة الغلو حتى تغطي الكراهية والحقد ومصادمة الخلق على ما فيه من دعوة للرفق والشفقة والمحبة والتسامح. كما أن علوم الشريعة هي أيضًا بحاجة إلى مزيد اعتناء، فمن مآسي العصر التي يتوجع لها القلب قِلَّة العلماء وكثرة أدعياء العلم، الأمر الذي هو سبب ما نراه اليوم بين كثير من المحسوبين عليه من الاشتجار والمنازعة والتفرق، وهذه الصفات هي أدل دليل على أنهم أدعياء علم وليسوا علماء، إذ العِلم الحق يُربي في صاحبه البعد عن حظ النفس وتغليب حظ الناس من اجتماع الكلمة ورفع النزاع ودرء الفشل.
مشاركة :