صفية القباني أول امرأة على كرسي نقيب التشكيليين المصريين

  • 2/6/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

هي فنانة التوليفات والألعاب ومواجهة الألغاز الصعبة، وخوض المغامرات غير المأمونة لكن بحسابات دقيقة، وطاقة محفّزة. صفية القباني، عاشقة المنمنمات الزجاجية والفسيفساء المتوهجة، صاحبة الإشراقات والتجليات الصوفية والفيوضات الروحية بلغة السماء، والأعمال المركّبة متعددة الخامات بتقنيات حداثية غير منقطعة الصلة بالموروث. وهي أيضا أستاذة التصوير وأول عميدة لكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، وأول امرأة على مقعد نقيب التشكيليين بمصر بفوز كبير في الانتخابات التي أجريت قبل أيام. على الرغم من وعورة الدروب التي سلكتها القباني في مشاويرها السابقة، فإن محطاتها الراهنة والمستقبلية تبدو أكثر خطورة، ومشيًا فوق الأشواك بكل معنى الكلمة، ومواجهة للدبابير في عشها، في مضماريْ الفن وجمالياته، والعمل الإداري وتبعاته، وذلك بعد تولّيها أعباء نقابة التشكيليين في انتخابات شرسة حصدت فيها أعلى الأصوات متفوقة على منافسها الفنان التشكيلي طه القرني. خلفت القباني النقيب السابق حمدي أبوالمعاطي، وورثت منه أزمات النقابة ومشكلاتها الكثيرة، التي أوصلتها إلى درجة غير مسبوقة من التشرذم والانقسامات والخلافات بين جبهاتها وأعضائها. رد الاعتبار ماذا بإمكان الأصابع الأنثوية أن تضيف إلى هذا الكيان العريق الذي تنتظم تحته أجيال متعاقبة من فناني مصر المبدعين؟ وبأيّ وجه من وجوهها ستتعاطى القباني مع العمل العام، ذي الطبيعة الفنية بالغة الخصوصية. بوجه الإدارية أم الأكاديمية أم الفنانة المرهفة أم المرأة؟ ومهما بدا الأمر من الوجهات المنطقية والعملية والتقنية غير متصل بجنس النقيب، رجلًا كان أم امرأة، فإنّ كونها أول سيدة تعتلي كرسي النقابة سيكون له، شاءت القباني أو أبت، تأثير على توجهاتها والمهام المنوطة بها والتحديات التي تواجهها لإثبات قدراتها الذاتية من جهة، وكممثلة لبنات جنسها من جانب آخر. محطات القباني تبدو أكثر خطورة من الدروب الوعرة التي سلكتها، مشيا فوق الأشواك، ومواجهة للدبابير في عشها، في مضماري الفن وجمالياته، والعمل الإداري وتبعاته يمكن وصف تجربة القباني الأولى مع الإدارة بأنها لم تكن ناجحة بالقدر الكافي، أو لم تكن بالمستوى المأمول، على الأقلّ قياسًا بنهايتها الدراماتيكية، فبعد قرابة ثلاث سنوات من تولّيها منصب أول عميدة لكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، انتهت رحلة سيدة الخامات الزجاجية الهشة بما يشبه التحطم المعنوي فوق صخور قاسية، حيث جرت إقالتها بقرار مفاجئ من ماجد نجم رئيس الجامعة، الأمر الذي جعل فوزها في نقابة التشكيليين محلّ مخاوف وتحفّظات لدى بعض الفنانين. لم تتمكّن القباني، عميدة أقدم مؤسسة فنية بالشرق الأوسط، من النهوض بكلية الفنون الجميلة خلال تلك الفترة الوجيزة، مثلما كانت تحلم صاحبة الرؤية التقدمية في الجمال البصري وإبراز شخصية المدن من خلال العمارة والفنون، وتعزيز الهوية الوطنية عبر ربطها المباشر بالهوية المعمارية وخصائصها الفنية. كما أنّ سيدة الرسائل الإبداعية الداعية إلى التسامح وتقبُّل الآخر لم تتمكن من درء التهمة عن نفسها وتبرئة ذاتها من حيثيات إقالتها سوى بعبارة “حسبي الله ونعم الوكيل”، وبمناشدة رئيس الجمهورية بـ”رفع الظلم عنها”. أحيطت تفاصيل الإقالة وقتها بقدر من التعتيم، ومسحة دبلوماسية من الغموض لإكمال السطور، وجاءت الإقالة استنادًا إلى قرار مجلس التأديب بجامعة حلوان، المتبوع بأنه “من حقها اللجوء إلى محكمة القضاء الإداري للطعن إذا ارتأت ظلمًا”. أما الذي تردّد من خطوط عامة حول أسباب استبعاد أول سيدة تشغل ذلك المنصب منذ إنشاء كلية الفنون الجميلة عام 1908، فمن بينه أن القباني أدينت بتعديل نتيجة اختبارات القدرات لأحد الطلاب المتقدمين للالتحاق بالكلية، إذ راجعت أوراق اختباراته منفردة، بين الآلاف من الأوراق، دون لجنة مراجعة النتائج بالكلية، بما يعدّ مخالفة قانونية، وصفها البعض بأنها تزوير، فيما تحفظ رئيس الجامعة عن ذكر أسباب الإقالة بشكل واضح. بغض النظر عن كواليس ما جرى، وخبايا ما دار في أروقة كلية الفنون وعلى مائدة مجلس التأديب، فإن ظلال هذه الواقعة سيكون لها دور في مسيرة القباني الإدارية الجديدة كنقيبة للتشكيليين، فلا شك أنها ستخوض غمار العمل مشحونة بالرغبة في رد الاعتبار وإثبات الذات واستعادة الثقة، وتقديم صفحة بيضاء للنصاعة والنزاهة إلى جانب الكفاءة المرجوّة من قائدة نقابة معروف عنها أنها نقابة شائكة ملغومة. سلاح النسوية أمر آخر يتعلق بتلك التحديات الكائنة أمام القباني على سلالم نقابة التشكيليين في ساحة دار الأوبرا المصرية، هو محاولتها استثمار أنها السيدة الأولى التي تتولّى هذا المقعد كسلاح لتحقيق مكاسب وتذليل سُبل النجاح، وفسّر البعض تعاطف عدد من الفنانين معها في معركة الانتخابات بأنه نوع من الدعم النسوي، لكن الحقيقة أن القباني لم تلعب على هذا الوتر في برنامجها الانتخابي ودعايتها التي سبقت فوزها، لكنها عمدت إلى استغلال العنصر النسوي بأكثر من صورة بعد تتويجها. على الرغم من أن مقعد نقيب التشكيليين استحقاق انتخابي وليس هبة أو مَنْحًا بالتعيين، فإنّ تصريحات القباني بعد فوزها جاءت أقرب إلى المغازلة الصريحة الفجّة للقيادة السياسية، إذ اعتبرت أن فوزها أحد وجوه تمكين المرأة، رامية إلى التوازي مع تعيين وزيرات في الحكومة الأخيرة، وتصعيد مسؤولات من النساء في قطاعات وزارة الثقافة المختلفة. إن تهنئة المجلس القومي للقباني بفوزها المستحق بعد انتخابات نزيهة وصعبة أمر مفهوم ومُتَقَّبل، لأنها أول سيدة تصل إلى هذا المقعد، وفوزها يعكس بطبيعة الحال إدراكا نوعيّا للدور المنوط بالمرأة كشريكة للرجل في المجالات المهمة الحساسة، ومنها الثقافة والفنون وسائر مقوّمات القوة المصرية الناعمة. وبدا خلط القباني في تصريحاتها بين نتائج انتخابات حرة، وبين خارطة تمكين المرأة والدعم الذي تتلقاه المرأة وفق مخططات القيادة السياسية، أمرا بالغ الغرابة، وكاد كلامها يشوب سياق الفوز برمّته بالخلل. وكان الأحرى أن تردّ على التهاني التي تتلقاها بشكر، وتتحدث إذا أرادت عن مجهودات المرأة واستحقاقاتها التي جاءت طبيعية بإعلان فوزها، ولم تكن نتاج قرارات عُليا من أجل تمكين المرأة. الإدارة والفن تتوجّه القباني صوب معترك نقابة التشكيليين بجناحيْ القدرات الفنية والمهارات الإدارية، ومن خلال البرنامج الانتخابي الذي وضعته، والقضايا التي أثارتها بعد تنصيبها، تبدو القباني على وعي مبدئيّ بمشكلات النقابة واحتياجات الفنانين، ويبقى أن يتحوّل هذا الوعي إلى نقطة انطلاق لخطط وسياسات ومناهج إصلاح على أرض الواقع. مرّت نقابة التشكيليين بالكثير من الظروف الصعبة، وعانى فنانوها الانقسامات والتشتّت، والتكتلات والتكتلات المضادّة في إطار من التناحر والتراشق، وعلى مجلس النقابة الجديد برئاسة القباني أن يكون منفتحًا على سائر الآراء والتيارات. وهذا ما أشارت إليه القباني، وأن التفكير الجماعي هو عنوان المرحلة المُقبلة، وكل من يمتلك خطة جيدة أو إضافة لافتة فسوف يتم إفساح المجال له للمشاركة في تطوير النقابة، والعودة بها إلى عهدها الذهبي كحصن للفن والفنانين. ترتكز قائمة أولويات القباني في مسيرتها النقابية على إعلاء قيمة الفنون البصرية، ونشر العناصر الجمالية في سائر الأمكنة، وتنمية موارد النقابة المالية، للإسهام في خدمات متعددة، على رأسها معاشات الفنانين. تجربة القباني الأولى مع الإدارة لا يمكن وصفها بأنها كانت ناجحة. فبعد قرابة ثلاث سنوات على توليها منصب أول عميدة لكلية الفنون الجميلة بجامعة حلوان، انتهت رحلة سيدة الخامات الزجاجية الهشة بما يشبه التدمير المعنوي أما فلسفة المجلس التي تشكّل مظلة للعمل فهي مرهونة بلمّ شمل الفنانين التشكيليين تحت مظلة واحدة، وبثّ روح الطاقة الإيجابية في أروقة النقابة، وتفعيل المزيد من النشاطات والخدمات، وتأسيس مجالس للحكماء، من خارج أعضاء مجلس النقابة، وكذلك إنشاء لجان تطوعية لفضّ المنازعات، وضمان تقارب وجهات النظر، ودمج الفنانين مع بعضهم البعض. ومثل هذه النقاط العريضة تبقى تنظيرية فقط إذا لم تترجم إلى تحركات ملموسة. يبدو أن القباني أدركت ذلك مبكّرًا، فشرعت بالفعل في رسم ملامح لخطط قريبة ومستقبلية. ففي مجال إعلاء قيمة الفنون البصرية ونشر العناصر الجمالية، على سبيل المثال، بدأ الإعداد بالتعاون مع جهاز التنسيق الحضاري لتشكيل لجان تأخذ على عاتقها محاصرة التماثيل الرديئة والمشوّهة في الميادين، وإعداد أعمال أخرى من خلال فنانين مختصين بهدف الارتقاء بالذوق العام، وإضفاء لمسات وبصمات جمالية على الشوارع والميادين والأرصفة والبنايات المعمارية. بالنظر إلى البرنامج الانتخابي للقباني، الذي حمل عنوانًا هو “فكر جديد لإدارة النقابة”، يتضح أن ثمّة تكاملًا بين ما هو علمي وما هو فنّي وما هو خدمي من أجل النهوض بالفن التشكيلي، ومحاولة توفير حياة كريمة للفنانين من أعضاء النقابة. وقد وضعت القباني قائمة أهداف كبيرة، انقسمت إلى ثلاث فئات: طبية واجتماعية وترفيهية. وتعهدت بأن تترك مكانها في حالة عدم تنفيذها ما التزمت به من هذه الأهداف، بما يوحي بالجدية في اضطلاعها بمسؤلياتها، خصوصًا أنها تدرك جيّدًا أن الأنظار كلها تتجه صوبها، وأن نقابة التشكيليين هي بمثابة كرة من نار. قوة فريدة ومن عناوين هذه الأهداف، التي زادت على ثلاثين هدفًا: مشروع مبتكر متكامل للرعاية الصحية، منظومة مالية جديدة بطرق تسويقية غير تقليدية ومراعاة أصحاب الحالات الطارئة، ضمان تمثيل نقابة الفنانين التشكيليين كجهة استشارية بشكل إجباري في أيّ عمل أو حدث فني قومي، وغيرها. بقي أن تستثمر القباني ملكاتها وقدراتها الجمالية، كفنانة تشكيلية، في تفجير أدائها الإداري خارج الصندوق النمطي، وأن تكون رسالتها النقابية ابتكارية هي الأخرى بالتوازي مع تجربتها الإبداعية، كصاحبة صيغ معاصرة وتكوينات ذات رؤية حداثية وتقنيات متطورة، حتى في تعاملها مع الموروث والجذور الشعبية. ومثلما أن للفن موروثًا، على الفنان المجدّد أن يتعامل معه بتمحيص وجدل، وشد وجذب، وغربلة وإضافة، فإن للعمل الإداري النقابي إرثًا طويلًا مثقلًا بالهموم، والحَسَن والسيء، وهنا ستتكشف قدرة صفية القباني على التنقية والفلترة والتطوير. وتعدّ تجربتها الفنية قوة دفع حقيقية في هذا الصدد، فهي فنانة محسوبة على تيار التجديد، لها إسهاماتها في إثراء المشهد التشكيلي المصري المعاصر، والتعامل مع الفن بوصفه جانبًا من جوانب الحياة، ولعبة تلقائية من ألعاب الطفولة، وليس ممارسة نخبوية معزولة عن الناس في برج عاجي أو في أطر مدرسية. لظمت القباني القديم والجديد معًا في خيط واحد، منفتحة على فنون الموزاييك والتصوير الجداري منذ عهد الفراعنة، مرورًا بالحضارة الإسلامية التي ارتقت كثيرًا بالمنمنمات والفسيفساء والثيمات الهندسية، ودائمًا لم يغبْ عن الفنانة الحس الاجتماعي، للخلاص من سيطرة الزخارف، واتخاذ الفن مرآة للحياة الشعبية والاقتصادية والسياسية، والتواصل الجماهيري المباشر مع الناس، على غرار الأجداد. وعنيت بخلخلة الأبنية الجامدة، والأخيلة التقليدية، ساعية إلى انتزاع العالم المادي من سياقه، لوضع كون آخر محلّه، وتوجيه مدركات البشر إلى مدارات خلاقة، لا مجال فيها للالتزام بالثوابت، فالفن انفتاح على نوافذ وفضاءات لاستعادة الإيجابية والقدرة على الانطلاق. لقد وعت التشكيلية المصرية، أن أيّ حساسية إبداعية ابتكارية إنما تقاس بصدق ملامستها حيوية الواقع، وتفاصيله الغنية، ومدى تفاعلها مع الجوهر الإنساني بانسيابية ومكاشفة، وإطلاق الطاقات الروحية وارتياد العوالم النورانية، وإعادة تشكيل الوجود كعجينة الزجاج الطيّعة، فهل ستنجح الفنانة التي حكتْ ألف حكاية لألف وردة شكّلتها في تكويناتها الجدارية المضيئة، في سرد حكاية أخرى متوهجة تخصّ “نقابة التشكيليين”، التي قضت سنوات رهينة الإظلام وعدم الاستقرار؟ هذا ما ستسفر عنه الأيام القليلة المقبلة.

مشاركة :