غالت الرأسمالية في تقدير الإنسان ومنحه كل الحريات حتى بلغت به مرتبة الإله الذي لا يسأل عما يفعل، وجعلته هو مصدر جميع السلطات إن لم يكن المصدر الوحيد في التشريع، فهو المصدر الرئيس، وجعلت ما يصدر عنه من سلوك، وما يقره من أحكام ليس للدين أي سلطان عليها، وفي المقابل بالغت الشيوعية في الحط من قدر الإنسان حتى حولته إلى مجرد ترس في آلة تزمجر بالليل والنهار لتحقق لفئة محدودة من أفراد المجتمع من ذوي السلطان طموحاتها التي لا تقف عند حد، بل لقد سلبت الشيوعية الإنسان أخص خصوصياته في أن يحقق في أبنائه المستقبل الذي أخفق في تحقيقه في ذاته، فالمرأة تلد وتسلم أولادها، وفلذات كبدها إلى الدولة لتربيهم التربية التي يراها المذهب الأيديولوجي أو تراها العقيدة الشيوعية دون أدنى تدخل من العائلة التي كادت الشيوعية أن تقضي عليها، واقتصر دور العائلة في العقيدة الشيوعية على مجرد آلة للتفريخ لتوفير الأيدي العاملة الصماء البكماء التي لا إرادة ولا رأي لها في حياتها، وهي خاضعة للعقيدة الشيوعية ولتحكماتها فيما تأخذ وتدع من أمور حياتها.والإنسان بين هذين المذهبين، أو قل بين هاتين العقيدتين ضائع تائه، هل هو إنسان كامل الأهلية له حق تقرير مصيره، وله كامل الإرادة في أن يختار أسلوب حياته التي يعيشها، وهل له حق الولاية على أهله وولده لأنه سوف يسأل عن المصير الذي سوف يؤولون إليه في يوم لا مذاهب فيه ولا عقائد، بل عقيدة واحدة، هي عقيدة التوحيد الخالص التي جاء بها أنبياء الله ورسله الكرام (صلوات الله وسلامه عليهم جميعًا) الذين اجتمعت كلمتهم على قول واحد ثابت هو: أن اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله سبحانه وتعالى؟هذه العقيدة الراسخة الثابتة قالها: الطفل الرضيع نبي الله عيسى ابن مريم وهو في المهد من قبل أن يبلغ سن التكليف: «فأتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئًا فريا (27) يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغيا (28) فأشارت إليه قالوا كيف نكلم من كان في المهد صبيا (29) قال إني عبدالله آتاني الكتاب وجعلني نبيا (30)» (سورة مريم)، وقالها الراشدون من أنبياء الله ورسله الكرام، وسوف ينادي المنادي في ذلك اليوم: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيئ لمن الملك اليوم لله الواحد القَهَّار» (غافر/16).لقد تاه الإنسان، وأصابه الوهن النفسي وهو يحاول جاهدًا أن يرضي أصحاب السلطان والهيمنة في الفكر الشيوعي الذين تظاهروا بالزهد، ووعدوا شعوبهم بأنهم بعد زمن لن يطول سوف يتسلمون السلطة وتتحول القيادة من البورجوازيين إلى البوليتاريا، وهم الفقراء المعدمون، وانتظر الفقراء هذا اليوم بفارغ الصبر، وهم لا يزالون ينتظرون، وحتى هذه اللحظة لم يتحقق الحلم البوليتاري، بل لقد بالغ البرجوازيون في التمسك بالسلطة وأذاقوا المعارضين لهم شتى صنوف العذاب والقتل بل والإبادة كما فعل زعيمهم ستالين حينما أباد ملايين الفقراء الذين حاولوا أن يتنسموا بعض عبير الحرية المحرم عليهم، ولم يتسع صدره الذي يضمر الضغينة والبغضاء لهؤلاء الفقراء.وتاه الإنسان حين زعمت الرأسمالية انه إله يُعْبَد من دون الله تعالى، فأطلقت له الحرية حتى شرب منها حتى الثمالة، فسكر من خمرها وأخذ يتطوح ويأتي من الأقوال والأفعال ما يتنزه عنه الحيوان الأعجم، ومن ثم صار في أيدي الساسة ألعوبة يتسلون بها، فجعلوه وقودًا لحروب (لا ناقة له فيها ولا جمل) كما تقول العرب في أمثالها، هذه الحروب التي يشعلها أصحاب السلطة الذين ينسجون لشعوبهم من الأحلام والأماني ما يجعلهم بهائم يسيرون إلى حتفهم بأضلافهم، وفي كل يوم.. وفي كل حرب يجد أصحاب السلطة أعذارًا تبيح لهم إشعال مزيد من الحروب، بل تجعل من الحرب الحل الأمثل لعلاج الكثير من المشكلات التي تمر بها الدول الإستعمارية المستبدة، هكذا يخدعون الشعوب لتحقيق مآربهم، ولغض الطرف عن جرائمهم، والعجيب والملاحظ أن جميع حروب أمريكا التي تتزعم العالم خارج أراضيها، ورغم ذلك، فالعالم لا يستنكر عليها ما تقوم به من عدوان وما تشعله من حروب غير مبررة إلا في عقل ووجدان المعتدي الأمريكي الذي لم ينجو من عدوانه حتى الأسرى في السجون الأمريكية التي نقلتهم من سجونها إلى سجون أخرى في مستعمراتها حتى لا ينالوا حقوقهم التي أقرتها لهم المواثيق والعهود الدولية كما حصل في سجن جوانتنامو وسجن أبي غريب العراقي.أمريكا تعمل على إرضاء السادة المتربعين على مقاعد السلطة الاقتصادية، وأصحاب مصانع الأسلحة، ورؤساء مجالس الشركات العابرة للقارات التي تقوم بإعادة ما دمرته هذه الحروب المفتعلة.كل هؤلاء يجب أن يرضيهم الرؤساء في الدول الكبرى لأن هذا الرئيس أو ذاك لا يستطيع أن يصل إلى مقعد الرئاسة إلا من خلال الدعم المالي الكبير الذي تنفقه مصانع الأسلحة وشركات البناء والتعمير الكبرى التي استولت على حصة الأسد في عقود إعادة التعمير دون بقية الشركاء في الحرب مما أغضب بعضهم واستنكارهم.إذًا، فلا بد أن تستمر الحروب، ولا بد من أن يستمر الهدم والتدمير حتى تعمل مصانع السلاح، وتمارس شركات البناء والتعمير عملها، وللكاتب الأمريكي نعوم تشومسكي مقولة شهيرة هي: (أن الولايات المتحدة الأمريكية تُصَدِر أزماتها الداخلية إلى الخارج)، فهي كلما واجهت أزمة في البطالة أو الصحة أو التعليم، افتعلت أزمة مع هذه الدولة أو تلك، أو أن تحرش بين دولتين بينهما خلاف تاريخي كامن، فتحييه وتؤجج ناره من جديد.لقد كانت أمريكا وراء الحرب العراقية الإيرانية، وهي وراء الأزمة الكويتية العراقية، وكانت تمسك مفاتيح هذه الأزمات في يدها تحركها متى شاءت وتوقفها متى أرادت، وما العالم إلا أحجار شطرنج تلعب بها أمريكا في أوقات فراغها.وبعد، فإن الإنسان يتأرجح بين المذهبين الرأسمالي والشيوعي، بل إنه مخلوق تائه ولا إرادة له بين عقيدتين: الرأسمالية والشيوعية، وهو يحاول أن يرضيهما بكافة الوسائل والسبل على حساب مصالحه لعله يرتاح نفسيًا، ويشعر ببعض الأمان والاستقرار، ولكن لا فائدة من كل ذلك كله لأن سيطرة هاتين العقيدتين على هذا الإنسان حولته إلى إنسان واهن العزيمة، ضعيف الإرادة لا رأي له.
مشاركة :