خلال شهر مايو الماضي، كسرت منظمة الجنود السابقين الإسرائيليين حاجز الصمت، عندما وضعت تقريراً يصف بصورة دقيقة الحرب التي قام بها الجيش الإسرائيلي على غزة، الصيف الماضي. وبعد أشهر عدة من تسجيل المقابلات مع نحو 60 جندياً من مختلف الرتب، كشف التقرير الذي وضعته المنظمة عن أن عدداً كبيراً من الإصابات في صفوف المدنيين الفلسطينيين، كان نتيجة تكتيكات الجيش الإسرائيلي، والأنظمة التي تبناها الجيش الإسرائيلي. قتل بالجملة كانت العملية، التي استمرت لخمسة أسابيع، وتعرف باسم السور الواقي، صراعاً عنيفاً يهدف إلى وقف إطلاق الصواريخ من غزة على إسرائيل. وأسفرت العملية عن قتل نحو 2200 شخص منهم 1492 مدنياً، أي أكثر من الثلثين، أغلبهم من الفلسطينيين. وبلغ تعداد قتلى الإسرائيليين 66 شخصاً منهم 60 من الجنود. وتشير الأدلة التي وردت في تقرير كسر الصمت، الصادر عن منظمة الجنود الإسرائيليين السابقين، إلى أن تعليمات صدرت للجنود تفيد بأنه يتوجب عليهم إطلاق النار على أي شيء يتحرك في منطقة القتال، بما فيها من الحيوانات والبشر المدنيين. وأثار التقرير العديد من الردود على مستوى الإعلام الإسرائيلي والدولي، وظهرت المحاولات المتوقعة بوصم واضعيه بالخيانة. ويفضل الإسرائيليون الاعتقاد أن جيشهم يحمل معايير أخلاقية عالية جداً، ولذلك فإن ردة فعلهم تكون عنيفة جداً على الأدلة التي تظهر غير ذلك. إذ ذكر التقرير أن شيئاً غير عادي كان يحدث في غزة، بالنظر إلى العدد الكبير من القتلى وسط المدنيين. ويعتقد معظم الإسرائيليين أن حركة المقاومة الإسلامية حماس هي الملامة على هذه الحرب. لكن المقابلات التي أجريت مع الجنود أظهرت بعض المفاجآت، التي تؤكد ما نشرته تقارير إعلامية في الصيف الماضي، إضافة إلى الأدلة المأخوذة من حملات الجيش الإسرائيلي في لبنان وغزة. وتكمن الأهمية الأكبر لهذه المقابلات، فيما تمثل بالنسبة لعمليات الجيش الإسرائيلي خلال العديد من السنوات، وبصورة غير مباشرة، بالنسبة للسياسات الإسرائيلية المستمرة في الضفة الغربية المحتلة. والمعروف أن قواعد الاشتباك المتبعة، التي يتم تعليمها للجنود في الجيش الإسرائيلي، تقضي بأن العدو المحتمل الذي يمكن قتله، هو الذي يحمل سلاحاً ويبدو أنه ينوي إيذاء من أمامه، وأنه يستطيع القيام بذلك فعلاً. ولكن قواعد الاشتباك في غزة كانت مختلفة تماماً، حسبما ذكر الجنود الذين تم إجراء المقابلات معهم، حيث قال هؤلاء إنه ليست هناك قواعد اشتباك. وإنما كانت الفكرة هي أنك إذا شاهدت شيئاً، أطلق النار عليه، فقد قالوا لنا من المفروض أنه لا يوجد مدنيون هناك، فإذا شاهدت أي شخص أطلق النار عليه سواء كان يشكل خطرا أم لا. وإضافة إلى ذلك فإنك إذا قتلت شخصاً من غزة فلا تهتم لأنه لا يعد مسألة مهمة. وينطبق الأمر ذاته على تدمير المباني، وحتى لو أدى ذلك إلى تدمير أحياء بكاملها، وذلك ما حدث في الشجاعية. وتضمن العدد الكبير من الضحايا في صفوف الفلسطينيين استشهاد 500 طفل، في حين أن التدمير في المنازل والبنية التحتية كان مهولاً. وكان من الواضح أن ذلك يهدف إلى تلقين الفلسطينيين درساً أو ربما الانتقام منهم، أو جعل مسألة تحقيق النصر العسكري لهم ضرباً من الوهم، أو ربما خلق رادع يمنع قيام مثل هذه الهجمات في المستقبل. وفي حقيقة الأمر، فإنه ليس هناك الكثير مما هو جديد في التقرير. ولكن الأمر الأكثر إثارة للدهشة، هو وجود تغير مهم في حقيقة أن هذه الأفعال، التي يجري الحديث عنها، تعكس سياسة ممنهجة ومدروسة، وتأتي من أعلى الهرم في الدولة. ولكن كيف جرى الانحدار إلى هذا الحد؟ من المهم أن ندرك أن تاريخ حماس يرجع إلى ما هو أبعد من العام الماضي. وأنها وصلت إلى الحكم نتيجة العلاقة الإسرائيلية ـ الفلسطينية، التي انطوى عليها الاحتلال الإسرائيلي خلال الـ48 عاماً الماضية. إسرائيل لعبت دوراً في وصول حماس إلى الحكم عام 2007. ويمكن أن تطبق هذه العملية على الضفة الغربية أيضاً، إذ إن انتخابات مجلس طلبة جامعة بيرزيت في 22 أبريل الماضي منح حماس النصر، وهو مؤشر يدل إلى أين الأمور متجهة. ويرجع ذلك إلى سياسة الاحتلال الإسرائيلية في الضفة الغربية، ناهيك عن سرقة الأراضي المتكررة، وحرمان ملايين الفلسطينيين من أبسط الحقوق، حيث يرون أن مفاوضات السلام ليس لها أي معنى. هذه السياسة التي تعكس رفض إسرائيل الصارخ للسلام. وهنا تكمن الأهمية الحقيقية لتقرير كسر الصمت، حيث يدل على وجود علاقة شريرة بين سلوك الجيش في غزة الصيف الماضي، والنظام المفروض حالياً على الضفة الغربية، على الرغم من أن الحكومة الإسرائيلية ترفض وجود مثل هذه العلاقة. وثمة ثلاثة أمثلة تؤكد ذلك: 1ـ في 17 مايو الماضي تم قلع 750 شجرة زيتون وتدميرها بوحشية، من قبل المستوطنين بالطبع، على أرض تملكها عائلة (أبوشنب) قرب مستوطنة أتسيون. وهذه الأشجار تشكل مصدر رزق العديد من الفلسطينيين، كما أنها تمثل للبعض فرداً من أفراد العائلة. 2ـ خربة سوسيا، التي تم طرد سكانها البالغ عددهم 4000 نسمة بصورة متكررة من بيوتهم وأراضيهم الزراعية، معرضة لخطر التدمير بصورة شاملة، إذ إن أوامر التدمير صدرت بحقها لكن تم تأجيلها منذ سنوات عدة. ويمكن أن تقوم الحكومة بتنفيذ قرارات الهدم و التدمير في أي لحظة. 3ـ في 19 مايو الماضي، حاول وزير الدفاع الإسرائيلي، موشي يعلون، فرض حافلات عامة للفلسطينيين كي لا يستخدموا حافلات المستوطنين. وهناك عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين الذين يحملون تصاريح الدخول إلى إسرائيل للعمل يومياً، ويعودون إلى بيوتهم ليلاً. وحجة المستوطنين الإسرائيليين في منع الفلسطينيين من ركوب الحافلات نفسها التي يستخدمونها، أن النساء يتضايقن من الرجال الفلسطينيين عندما ينظرون إليهن، إضافة إلى أن رائحتهم تكون كريهة خلال عودتهم من العمل. إذا كان جميع الفلسطينيين هم أعداء، وإذا كانوا مختلفين عن الإسرائيليين كفاية، بحيث ينظر إليهم باعتبارهم كائنات بشرية متخلفة، وإذا كانت إصاباتهم لدى المدنيين الإسرائيليين قليلة. وإذا كانت السياسة الإسرائيلية الرسمية تعتمد على استمرارية نظام قاسٍ في الاحتلال إلى ما لا نهاية، ويمنعون الحقوق الأساسية للإنسان الفلسطيني، وإذا كان رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، يسمح لنفسه بالقول إن العرب الإسرائيليين، وهم مواطنون في الدولة، يشكلون خطراً على الأغلبية اليهودية في إسرائيل، كما فعل خلال الانتخابات الأخيرة، وإذا كان كل هذا مقبولاً داخل إسرائيل، إذن فإن قتل مزيد من الفلسطينيين سيكون أكثر سهولة ويسراً، و يبدو أنه لا يمكن أن يشكل جريمة. وجاء في التقرير ان إجراءات إخلاء المدنيين التي يستخدمها الجيش الإسرائيلي غير منطقية وغير عملية، لأنها لا تمنح المدنيين الوقت الكافي لمغادرة منازلهم، كما أنها غير مجدية من دون وجود ممرات آمنة يستطيعون من خلالها حمل بعض المؤن. وكان العديد من المدنيين قد قتلوا خلال محاولاتهم اليائسة الوصول إلى بر الأمان .
مشاركة :