للآخر أن يرى بعين ثقافته ما لا نراه بعين ثقافتنا.. إذ تفيدنا كتب الرحالة ما بين القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين في عنايتها بوصف فنون الأداء والقول والحركة ضمن مشاهداتهم، -وإن لم تكن هدف الرحلة-، باستثناء الرحالة الهولندي سنوك هورخرونيه الذي زار مكة المكرمة عام 1883 مخصصاً تسجيلاته للجالية الجاوية، فمن تلك المدونات المتنوعة التي وضعها كل من الرحالة الدانمركي كارستن نيبور (1733- 1815)، والسويسري جون بوركهارت ( 1784- 1817)، والبريطاني أندرو كرايتون (1855-1790)، والبريطاني هارولد ديكسون (1881 - 1959) حتى مارسيل كوربرشوك (مواليد 1949) الذي زار المملكة العربية السعودية أواخر القرن العشرين وتعرّف بالشاعر الدندان عبدالله الرجباني (1916-1997) وحمل كتابه عنواناً أوحاه الشاعر نفسه "البدوي الأخير" (2001). وأقول- من تلك المدونات نطالع تسجيلهم لمشاهدات لعروض الفنون الأدائية والقولية والحركية، وقد رصدت لنا الكثير من تلك النماذج بعضها وصفاً دقيقاً، وهو يوثق للمرحلة التاريخية التي تحسب من عمر الفنون الأدائية نفسها، وأدوارها الاجتماعية والثقافية، وتأثرها بالقوى الدينية والسياسية. ولأهمية تلك المدوّنات يمكن استعراض أكثر من مدونة تغطي القوس الجغرافي من شرق الجزيرة العربية وإلى شمالها حتى غربها. لرحالة تنوعت مهماتهم بين الديبلوماسية والاستكشافية والاستشراقية غير أنها تمدنا بمعلومات وافرة للبحث والتحليل والخروج بأكثر من نتيجة. فمن مشاهدات كرايتون في كتابه "تاريخ جزيرة العرب قديماً وحديثاً" يصف الحياة الترويحية في القرن الثامن عشر كما شاهدها فيقول: "والتسليات الأهلية (الفنون الشعبية) الأكثر هي: الرقص والغناء، وقصّ القصص (السواليف)، التي لها عندهم هوى فريد. وهناك نوع من الغناء عام منتشر في كل الصحراء (وفي القُرى أو البلدات أيضاً) يلتحق به الشباب من الجنسين في الفرقة، مصففين بالأيدي، وحركات مختلفة للجسم. وتسمى المسمر أو السامر. وهو الفرصة الوحيدة التي يغني فيها العاشق عشيقته. وأبيات الشعر غالباً ما تكون منظومة ارتجالاً، وتتحدث عن جمال المحبوبة وصفاتها. وعندهم أغاني حرب اسمها حدو في مدح زعمائهم، وغناء لتحريك إبلهم. ذلك أن من المعلوم جيداً أن البعير لا يتحرك أبداً بيسر كتحركه عند سماعه غناء صاحبه. وحين يتلو عنزي أبياتاً من الشعر، أو الشعر القديم، فإنه يصحب صوته بالربابة، التي هي نوع من القيثار، وهي الآلة الوحيدة المستعملة في الصحراء. وبعض القبائل أكثر شهرة من الأخرى في المواهب الشعرية والصوتية. وأهل الجوف يغنون وسط خيام عنزة مقابل مكافأة زهيدة. وفي المدن هناك أساتذة منظّمون للفن يحضرون إلى المقاهي ويقدمون خدماتهم في المناسبات الاحتفالية. ومما (هو) مشهور لدى البدو تلاوة القصص الشبيهة بحكايات ألف ليلة وليلة" (كرايتون، 2012، ص: 150-151). وينتج عن قراءة هذا النص إلى تحديد فنون أدائية وقولية وحركية تزاول في شمال الجزيرة العربية بحسب زيارة الرحالة: -السامر (وهو ليس فن السامري الخاص بشمال شرقي الجزيرة العربية). -الحدو (فن حماسي). -جرة الربابة (سالفة وغناء قصيدة قصصية). ومن تقاليد وطقوس تلك الفنون الأدائية، الأول التركيز على البراعة الفردية سواء في الأداء والعزف والقول الشعري في فن الحدو وجرة الرباب، والثانية الإقرار بالمشاركة بين الجنسين في موضوع غزلي (فن السامر).
مشاركة :