في مقالتين سابقتين استعرضنا مشاهدات كل من الرحالة كرايتون وهورخرونيه ما بين شمال وغرب الجزيرة العربية، وبين القرن الثامن عشر والتاسع عشر، إذ يتجلى لنا رصد الفنون الأدائية والقولية والحركية المتنوعة بين منطقتين ليستا ببعيدتين عن بعضها جغرافياً وإنما تختص كل واحدة بعناصر ثقافية واجتماعية مختلفة. ونختم استعراض مدونات الرحالة بكتاب "عرب الصحراء" (1949) هارولد ديكسون (1881- 1959)، وهو عمل أنثروبولوجي بامتياز جداً، إذ رصد الحياة الاجتماعية والسياسية بين عامي 1920- 1936 للجماعات النجدية (حضر البلدات أو قبائل بادية) ما بين الكويت والسعودية. وقد انطلق من وصف الحياة البدوية ومظاهرها سواء التراث المادي أو غير المادي (المعنوي) غير أنه تعداها إلى وصف الحياة الحضرية المتداخلة معها، وما يهمنا وصفه للفنون الأدائية الخاصة بالجماعات النجدية بالإضافة إلى الجماعات المنبوذة (الصلبة)، ويصف ديسكون حضوره مظاهر الاحتفال في العيد بأداء "رقصة العرضة" المنتشرة في بلدات منطقة نجد وبلدات ساحل الخليج – وهو مقطع طويل لدقة وصفه تقاليد الأداء- ولكن نورده لكونه شاهداً على تقاليد وطقوس ممارسته في الربع الأول من القرن العشرين ولا زال مستمراً وإن تحولت وظيفته الاجتماعية أو أبطل مفعوله الوظيفي ونحا إلى "الثقافة الشعبية"، فلنطالع ما يقول في نص طويل جداً : "رقصة العرضة تبقى هي هي لا تتغير ما عدا بعض التنويعات الطفيفة التي تناسب أذواق الراقصين المختلفة. والإشارة المستخدمة لبدء العرضة هي عبارة عن علم كبير [...] يثبت في الأرض ليتجمع حوله الناس. وبالقرب من هذا العمل يقف مجموعة من الرجال يحملون الطبول والدفوف. ويبدأ الرجال بقرع الطبول بانسجام مستخدمين قطعة مسطّحة من الخشب القاسي أو العظم في حين يقرع الدف بالدف. وفي الحال يتجمع الناس من حولهم وكذلك الرجال الذي يودون الاشتراك في الرقص ويكون نصفهم من حملة السيوف والنصف الآخر من حملة البنادق، وسرعان ما يصطف هؤلاء الرجال ويأخذ كل منهم مكانه في الدائرة الواسعة التي يشكلونها حول العلم، ثم يدخل المغنون أو المرددون إلى وسط الدائرة ويتكون هؤلاء من صفين في كل منهما ثلاثون رجلاً يواجه أحدهم الآخر في نهايات الحلقة المتقابلة. وأخيراً يأتي رجال البارود الذي يحشون بنادقهم من الفوهة بالبارود الأسود ويطلقونها على الأرض أثناء دوران الرقص. ولدى انتهاء الاستعداد للرقص يقوم أحدهم بإشعال نار في وسط الحلقة لتسخين الرق وشده عندما يرتخي، ثم إن فريقي المردِّدين يأخذان أماكنهما متقابلين بأذرع متشابكة ويفصل بينهما مسافة تقدر بسبعين قدماً ثم يبدأون أناشيدهم الرتيبة وهم يطوحون أجسامهم من جانب إلى من جانب إلى آخر أثناء الغناء دون أن يتحركوا من أماكنهم. ولفرقة المرددين هذه رئيس يقوم بتوجيه الغناء والذي يتحرك الآن بعصبية من مجموعة إلى أخرى ليرشدهم إلى ما يغنون من أبيات (والتي يقوم هو نفسه بتأليفها)، ثم ينتقل إلى فريق المرددين الثاني ويخبرهم بماذا يجيبون، ويغير هذا الرئيس الأناشيد كل خمس دقائق تقريباً. وعندما يبدأ المرددون الغناء بصوت عميق يأخذ حملة السيوف وحملة البنادق الذين يبلغ عددهم في العادة من أربعين إلى خمسين رجلاً بالسير على نحو دائري حول الحلقة وبإيقاع بطيء يمكنهم من مرافقة الغناء وقرع الطبول بانسجام.. إلخ" (ديكسون، 1997، ص: 279-280). ويترك ديكسون بضع ملاحظات هامة حول "فن العرضة" فيقول: "وكانت هذه العرضات تتسم من أولها إلى آخرها بالرصانة والاحتشام والبعد عن الخفة والابتذال، وكانت حركات الرجال بطيئة ومتلوية دون إسفاف أو سوقية، كما أن سلوك المتفرجات من النساء كان هادئاً ولائقاً كل اللياقة. والرقصة في الأصل رقصة حربية والأناشيد المرافقة لها هي عبارة عن مديح لحكام البلاد أو تمجيد لبطولات الرجال الشجعان، وكان ضاربو الطبول بشكل عام من الزنوج السود في حين كان بقية المؤدين من العرب أو من طبقة المحاربين [ الفرسان ]" (ديكسون، 1997، ص: 281). إن هذا الوصف الدقيق – والمملَّ قليلاً-، يكشف توزيع الأدوار في النظام الاجتماعي ذي الصفة السلطوية، من حيث تخصيص الوظائف (الراقصون، ضاربو الإيقاع، المغنون، الملقِّن، الفرسان حملة السيوف والبنادق)، وتوالي الخطوط المتقاطعة التي تتحول إلى دوائر تجمع فريق المغنين وضاربي الإيقاع بالفرسان حملة السيوف والبنادق غير أنها تمفصل الأدوار تكرّس من التباين السلوكي ما بين الفئات الاجتماعية من حيث إن ممارسة الرقص والغناء ورفع العلم تترك لمن يمثلون طبقة دنيا من المجتمع، والفروسية بحمل السيوف والبنادق تمثل طبقة العسكر، وما إحاطتهم بالنساء وإنما على مبعدة إلا تكريس للدوائر القريبة من المركز والهوامش ما بين الطبقات والفئات ومزايا إحداها وحرمان الأخرى أو تهميشها نتيجة للمفاضلة ما بين ممثلي الحماية والأمن مقابل ممثلي الترويح والتسلية، والمنتمى العرقي الذي يعد أحد المبررات لارتباطه الوظيفي بالخدمات الاجتماعية.
مشاركة :