الوثائق الرسمية للمنتدى الاقتصادي الدولي، وبالتحديد في البند المتعلق برسالة المنتدى, تفيد بأن المنتدى منظمة دولية مستقلة تهدف إلى تحسين حالة العالم من خلال تعزيز آليات ووسائل التعاون بين القطاع الخاص على كافة المستويات، ومن أجل تحقيق هذا الهدف يدعو المنتدى قادة العالم في المجال السياسي والتجاري والثقافي والخبراء في المجالات الأخرى لمناقشة أولويات العمل ووضع جدول أعمال إقليمية وعالمية وصناعية.وقد كان هذا المنتدي السنوي منذ تأسيسه وانطلاقه في جنيف في عام 1971 يعكس عنوانه وأهدافه وهو التركيز على الجانب الاقتصادي التنموي بشكلٍ خاص، ولكن هذا الاهتمام الأولي المباشر بالقضايا الاقتصادية لحقه اهتمام آخر بقضايا لا يمكن فصلها عن الجانب الاقتصادي، كما إنه لا يمكن للقضايا الاقتصادية أن تستديم وتستكمل أبعادها بمعزل عن هذه القضايا الأخرى المستجدة، وعلى رأس هذه القضايا الجانب البيئي والمظاهر والمشكلات التي نزلت علينا وعلى بيئتنا خلال العقود الماضية، والتي لها أبعاد إقليمية وعالمية على حدٍ سواء، ولا يمكن تجاهلها أو غض النظر عنها لما لها من تداعيات اقتصادية وتنموية تهدد البرامج الإنمائية لكافة دول العالم، مثل معضلة التغير المناخي المعقدة والمتشابكة.وهناك قضايا أخرى أيضاً ولكن أقل أولوية على المستوى الدولي ولكنها كانت حاضرة وبقوة لما لها من فرص استثمارية مالية يمكن استغلالها، وبالتحديد في المنتدى الأخير الذي عُقد في منتجع دافوس للتزلج في جبال الألب الشاهقة الناصعة البياض في سويسرا في الفترة من 21 إلى 24 يناير من العام الجاري. وهذه القضية هي النموذج الجديد للنمو والذي يُعرف بـ«النمو الدائري» (circular economy) كبديل عن نمط النمو التقليدي المتبع منذ قرون وهو النمو الخطي (linear growth)، إضافة إلى مناقشة سياسات وأدوات هذا النمو الدائري في المجالات البيئية المختلفة، وبالتحديد أخص بالذكر هنا قضية المخلفات على المستويين الإقليمي والدولي.فالمجتمع البشري، وبخاصة في الدول الصناعية الكبرى المتقدمة في الغرب والشرق تَبَني نموذج النمو الاقتصادي الخطي المستقيم الرأسمالي الذي يعتمد على الإنتاج السريع والكبير، والاستهلاك الدائم والواسع النطاق دون أدنى اعتبار للجوانب الأخرى، وبالتحديد الجانبين الاجتماعي والبيئي، ولذلك فهذا النمو اعتمد على التنقيب دون رقيب عن الموارد الطبيعية الصلبة والسائلة والغازية واستخراجها بأية وسيلة ممكنة ورخيصة، ثم نقلها مباشرة إلى مرحلة الإنتاج والتسويق في نهاية المطاف، دون التفكير في تداعيات وتبعات هذا الإنتاج الكبير من ناحية التعامل مع المخلفات وإدارتها بطريقة سليمة صحية وبيئية من جهة أو الانبعاثات الغازية المهلكة للحرث والنسل من جهةٍ أخرى. ولذلك يقف الإنسان حتى يومنا هذا عاجزاً عن معالجة مخلفاته التي أنتجها هو بنفسه بيديه، بل وهناك مخلفات تثير القلق والرعب على مستوى الكرة الأرضية وتهدد استدامة بقائها، وهي ما أُطلق عليه بمخلفات الدمار الشامل أو القنابل الموقوتة، وهي المخلفات المشعة التي نتجت عن استخدام الطاقة النووية إما لأغراض عسكرية والمتمثلة في إنتاج القنابل الذرية، والصواريخ ذات الرؤوس النووية، أو لأغراض سلمية كتوليد الكهرباء أو تشغيل الغواصات بالطاقة النووية. كذلك هناك المخلفات الأقل خطورة على الإنسانية وهي المخلفات التي ننتجها نحن في منازلنا ومكاتبنا ومحلاتنا ومصانعنا، وهي الآن تُشكل عبئاً كبيراً وكابوساً مخيفاً على الدول في كيفية إدارتها بأسلوب مستدام، حتى إنها في بعض الدول تحولت إلى قضايا سياسية وأمنية تشكل تهديداً لاستقرار الحكومات وخطورة على السلم الأهلي والقومي. وأخص بالذكر هناك المخلفات البلاستيكية، وبالتحديد المخلفات الميكروبلاستيكية الدقيقة والصغيرة الحجم التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من جميع مكونات بيئتنا الحية، بل وأكدت الدراسات الميدانية أنها دخلت أعضاء جسم الإنسان وتمكنت من غزو خلايا الجسم والتراكم والاستقرار فيها.كما أن هذا النمط الخطي للنمو أفرز مشكلات وظواهر بيئية خطيرة لم تتمكن عقول البشر حتى الآن من علاجها والتخلص منها مثل الضباب الضوئي الكيميائي القاتل الذي ينزل على معظم مدن العالم الحضرية فتصيح أجراس الإنذار معلنة بخطر قادم، إضافة إلى ظاهرة التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض التي مازالت منذ دخولها جدول الأعمال العالمي في عام 1992 لدول العالم تُناقش سبل علاجها ومواجهتها بشكلٍ جماعي إلزامي مشترك.فكل هذه التداعيات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية لهذا النموذج الأحادي الجانب والمعوق للنمو، اضطر العلماء إلى التفكير عن البديل المستدام الذي يجنب الإنسان هذه الكوارث والمظاهر البيئية الصحية الخطيرة، فجاءت فكرة أو النموذج الاقتصادي الدائري، وهو نظام اقتصادي مغلق، كالدائرة، يعتمد على التصميم البيئي المستدام للمنتجات الاستهلاكية، أي في مرحلة التصميم في المختبر ومراكز الأبحاث والجامعات، والتفكير في إنتاج المادة الاستهلاكية مهما كان نوعها وحجمها بحيث إنها تكون ذات مواصفات وخصائص بيئية وصحية صديقة للإنسان والبيئة وذات جودة عالية، فهي تكون سهلة وعملية من ناحية إعادة الاستعمال والقابلية للتدوير، وتُستخدم في كل هذه العمليات مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة التي لا تنبعث عنها الملوثات والسموم، فالمحصلة النهائية لهذا النمط من النمو هو خفض استهلاك الموارد الطبيعية والثروات الحية وغير الحية وتمديد عمرها وعطائها، وخفض الإنتاج العام للمواد والثروات الفطرية، وخفض إنتاج المخلفات أو منعها كلياً، إضافة إلى خفض انبعاث الملوثات الغازية والسائلة والصلبة.وهذا النموذج الجديد للنمو أصفُه بأنه النمط الأخلاقي والمسؤول، فهو نموذج غير أناني ومستدام، لأنه لا يضيِّع فرص التنمية أمام الأجيال اللاحقة، فلا يبذر أو يهدر في استنزاف الموارد، سواء من الناحية النوعية أو الكمية، ولا يلوث عناصر البيئة الحية وغير الحية، فهذا النموذج يورِّث الأجيال المستقبلية بيئة صحية سليمة، وموارد وثروات طبيعية تكفي للقيام ببرامجهم التنموية.وتبني منتدى داغوس الاقتصادي لمثل هذه الفكرة والرؤية ليس في تقديري حباً للبيئة، وإنما وجدوا فيها فرصاً للاستثمار والتنمية ومكاسب مالية جديدة لا يمكن تفويتها، حيث إن إتباع هذا النموذج يجعل الباب مفتوحاً على مصراعيه للتوفير وتقليل النفقات وترشيد الموارد، ولو قامت الدول فعلاً بذلك فإن الفرصة الاقتصادية المتاحة تُقدر بنحو 4.5 تريليونات دولار على المستوى الدولي بحلول عام 2030.bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :