منذ السبعينيات من القرن المنصرم، أي منذ الانطلاقة الأولى للمنتدى الاقتصادي العالمي وهو يسعى إلى تنسيق الجهود الإقليمية والدولية والتعاون بين كافة الجهات ومراكز النفوذ والقوة على إيجاد الفرص للاستثمار على المستويين الإقليمي والدولي، وتعزيز وتوسيع دائرة النمو الاقتصادي بين كل هذه الدول.وكان المنتدى طوال هذه العقود الماضية، ومازال حتى الآن، يعتمد المنهج الرأسمالي الاستهلاكي، ويسير على هدي النموذج الخطي للنمو الذي يُنمِّي ويدمر في الوقت نفسه، ويُعمِّر ويفسد في آن واحد، فيبني المصانع من جهة ويلوث الهواء والماء والتربة من جهةٍ أخرى، وينشئ الطرقات والمباني والمساكن ويقضي فورًا على الغابات والأراضي الرطبة المنتجة والسواحل المعطاءة، ويصنع السيارات والطائرات والبواخر وفي الوقت نفسه يفسد صفاء الهواء الجوي ويعكر نقاء مياه البحار والمحيطات ويكون ظواهر بيئية في الهواء والماء فتقتل البشر والشجر والحجر، ويولد الكهرباء لإنارة المدن وتشغيل المحركات ويصاحب ذلك استنزاف كبير للثروات الطبيعية ونشؤ مشكلات مناخية لم يتمكن حتى الآن من التصدي لها ومعالجتها، إضافة إلى إفراز هذه العمليات التنموية مخلفات مشعة وسامة وخطرة تهدد استدامة الحياة على سطح الأرض.ومنذ عدة سنوات تُبذل جهود مشكورة من قبل العديد من المفكرين والعلماء أصحاب الضمير الحي والمسؤول لتغيير دفة سفينة المنتدى لتكون أكثر مسؤولية تجاه المجتمع البشري برمته في كافة أنحاء العالم، والعمل على تحويل مسيرته ورؤيته نحو نمط من النمو أكثر استدامة وعطاء لنا وللأجيال اللاحقة من بعدنا، بحيث إن البرامج التي يقترحها المنتدى لا تكون لها عواقب اقتصادية، أو اجتماعية، أو بيئية، أو صحية وخيمة علينا وعلى من يأتي من بعدنا. فلا بد من رؤية اقتصادية جديدة متوازنة ومعتدلة، تتمتع بأخلاقيات عالية وسامية، وتتحمل مسؤولية مشتركة عن الجميع لهذا الجيل الذي نحن فيه الآن وللأجيال المستقبلية، فنُنمي دون أن نُدمر، ونُعمِّر من دون أن نُفسد، ويعم الخير والعيش الرغيد على الجميع وليس دولاً بعينها، أو فئات قليلة من المجتمع. فكانت ولادة رؤية اقتصادية جديدة للنمو تأخذ في الاعتبار هموم ومتطلبات الدول المتقدمة ورجال الأعمال ورجال السياسة والنفوذ والاقتصاد جنبًا إلى جنب مع هموم واحتياجات الدول الفقيرة والنامية والشعوب المستضعفة للنمو، وهذه الفكرة هي الاقتصاد الدائري، وإحدى القضايا التي يرُكز عليها هذا النمط الاقتصادي هو المخلفات بكافة أنواعها وأشكالها.فالمخلفات الصلبة أو القمامة أصبحت قضية معقدة ولها جوانب تتعدى الجانبين البيئي والصحي، ففي بعض الدول تحولت إلى قضية سياسية وأمنية لتراكمها في الأحياء وتجاهلها من قبل السلطات، وهذه القضية أصبحت الآن ملحة أكثر من قبل، وشكَّلتْ أزمة حادة لبعض الدول، وبخاصة في الدول الصناعية المتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وغيرها التي كانت تصدر جُلَّ مخلفاتها الصلبة، وبخاصة البلاستيكية منها إلى الصين بعد أن أوقفت الصين استيراد كافة أنواع المخلفات من الخارج. فالواقع فرض الاهتمام بالمخلفات الصلبة وجعلها فرصة للاستثمار وجني المال من قبل الشركات الصناعية متعددة الجنسيات، كما أن الدول اتجهت نحو استحداث أدوات تصب في أهداف وأسس الاقتصاد الدائري، ومنها فكرة أو سياسة «عدم إنتاج المخلفات» (Zero Waste) التي لاقت رواجًا في السنوات الماضية، كما حظيت بالقبول لدى المنتدى الاقتصادي الدولي فقام بإدخال هذه الفكرة كبند ضمن جدول أعماله في المنتدى الذي عقد في نهاية يناير من العام الجاري في منتجع دافوس بسويسرا.وهذه الفكرة أو السياسة تهدف على المدى البعيد وبشكلٍ خاص إلى منع إنتاج المخلفات كليًا، والمحافظة على الموارد الطبيعية وإعادة استعمالها أو تدويرها، ثم تجنب دفن أو حرق المخلفات لحماية الكرة الأرضية من ارتفاع حرارتها.وفي تقديري ان هذه الفكرة على المدى القريب طموحة جدًا وغير واقعية على المدى القريب، وبخاصة في الدول النامية. أما في الدول الصناعية المتقدمة الكبرى فإن حظوظ نجاح هذه الفكرة أفضل، وواقعية تنفيذها أكثر لأن هذه دول مُنتجة ومصنعة لجميع المواد الاستهلاكية، فهي تتمكن منذ المرحلة الأولى من صناعة المنتج, وهي مرحلة الدراسة والتصميم في المختبرات ومعاهد البحوث التابعة لها, على تبني سياسة التصميم البيئي أو التصميم الصديق للبيئة، بحيث إنها أولاً تُصنع منتجات لا تنبعث عنها مخلفات منذ البداية، كما أنها تستطيع تصميم مواد استهلاكية قابلة لإعادة الاستعمال بسهولة، أو أن لها القابلية وخاصية التدوير وإعادة التصنيع مرة ثانية. إضافة إلى أن تنفيذ فكرة الإنتاج الصفري للمخلفات بحاجة إلى ثقافة مجتمعية عالية، ووعي شعبي رفيع، وسلوكيات بيئية مستدامة يقوم بها كافة أفراد المجتمع، كما أن هذه الفكرة تحتاج إلى جهود الدولة برمتها من جهازها التنفيذي والتشريعي والقضائي، إضافة إلى تعاون المجتمع المدني والجمعيات الأهلية، فيجب التأكيد على تشكيل عمل جماعي مشترك ووضع قوانين صارمة ورادعة لكل من لا ينفذ أي بند من هذه السياسة، سواء أكانت الحكومة نفسها، أو القطاع الخاص، أو الأفراد. أما في الدول النامية فإنني أشك في إمكانية تنفيذها، فهي دول تستهلك فقط دون أن تنتج، فلا تستطيع أن تتحكم في خصائص ومواصفات المواد الاستهلاكية التي هي أصلاً معظمها مستوردة، كما أننا ينقصنا الوعي على كافة المستويات بأهمية مثل هذه القضايا وعلاقتها الحميمية بأهداف التنمية المستدامة المعلنة من قبل دولنا.فمعظم البلديات أو المدن التي تتبني هذه الفكرة موجودة في الدول المتقدمة وتشترك في المبادرة الدولية لعدم إنتاج المخلفات، مثل مدينة فرانسيسكو في ولاية كاليفورنيا، ونحو مائة بلدية في إيطاليا، ومائة بلدية في إسبانيا، وآخرها مدينة كيل (Kiel) الساحلية في ألمانيا التي تعتبر أول مدينة ألمانية تطبق هذه الفكرة.وبالرغم من هذه الصعوبات والتحديات الكبيرة فإنني أدعو دولنا إلى التفكير من الآن في وضع خطة زمنية بعيدة المدى لنلحق بالدول المتقدمة في مجال الإدارة السليمة للمخلفات وتبني فكرة عدم إنتاجها كليًا. bncftpw@batelco.com.bh
مشاركة :