تكمن أهمية رواية «الحي الرّوسي» المعتمدة في القائمة القصيرة لـ «البوكر» 2020، والصادرة عن داري «ضفاف» و«اختلاف»، للكاتب السوري خليل الرّز، في تجاوزها للنمط التقليدي من الكتابة السردية، فقد حطّم نسقها وأدخلها في متواليات «زمكانية» و«حدثية» تنسجم مع البنية المعمارية للنّص الذي يشتغل في منطقة رمادية بين الواقع والمتخيّل، حينما يحتفي بعدد من الحيوانات، ويمنحها أدواراً موازية للشخصيات التي تشترك في البطولة الجماعية في ظل غياب البطل الواحد، وهيمنة الأصوات المتعددة. يتجّه خليل الرز في هذا العمل الأدبي الرفيع إلى خلق نصّ روائي لا يجاريه فيه أحد، إنّه يخلط الأمكنة مع بعضها، وهذه الطريقة تعتبر واحدة من الطرائق الحديثة التي تستخدمها الرواية العالمية، وتشتمل على الظواهر التي تمثل تغييراً في السرد الروائي ذاته، كما أنها تمثل تغييرًا في طريقة تسلسل الأحداث التي اعتدناها في الرواية. تحكي رواية الحي الروسي عن حي يرفض الدخول في الحرب الدائرة من حوله طيلة سنوات، ولكنه يجد نفسه، أخيراً، مرغماً على دخولها، فيدخلها بالحكاية وليس بالأسلحة. أبطال الحكاية هم زرافة في حديقة الحيوانات، كلب بودول، كلبة أفغانية، وعصفور منسوج من الصوف. ومن الشخصيات الأخرى الراوي، وهو مترجم يعيش في حديقة الحيوانات في الحي الروسي، وفيكتور إيفانيتش صحفي روسي سابق يعمل حاليا مديرا لحديقة الحيوانات، وأبو علي سليمان أستاذ اللغة الفرنسية وصاحب محل ألبسة، عصام بطل شعبي يعمل في كباريه ورشيدة المغربية عازفة عود سابقة في كباريه، أركادي كوزميتش كاتب روسي مغمور، ونونا بنت عازف كلارينيت تنسج الصوف، وتعيش مع الراوي في حديقة الحيوانات. خليل الرز في الواقع لا يسعى هنا إلى بناء عالم رمزي، يحاكي «كليلة ودمنة» مثلاً عند ابن المقفع، ولكنه يبني عالمًا آخر واقعيا بتفاصيل جديدة خاصة وغريبة وعميقة، ويسعى إلى تفكيك المتعارف عليه في العلاقات بين الناس والأشياء والحيوانات وغيرها، ويمزج باقتدار الواقعي بالمتخيل، إذ يصل للقارئ وأبطال الرواية على السواء آثار الحرب وأصوات القنابل والمدافع، في الوقت نفسه الذي يدور فيه حوار بين الأبطال حول تثاؤب الزرافة، أو كيفية الاعتناء بالعصفور، ومراقبة أفكار الكلاب والاستفادة منها. يمكن القول إن «الحي الروسي» هي رواية شخصيات أكثر منها رواية أحداث، فثمة شخصيات سورية وروسية كثيرة جعلها الكاتب تتحرك بين روسيا، إثر انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، وبين سوريا، إثر اندلاع الانتفاضة الشعبية عام 2011، وقد اختار لها مكاناً افتراضياً أسماه «الحي الروسي» الذي تقوده المافيا الروسية الممثلة بشخصية «بوريا» وثمة عدد آخر من الشخصيات التي قُدمت بطريقة المشاهِد السينمائية على مدار النص السردي، وأثثتهُ منذ مستهل الرواية حتى جملتها الختامية في تقاطعات لم يشأ من خلالها تناول ما يدور في سوريا من حرب عبثية واقتتال لا نعرف مداه إلا بهذه الطريقة الفانتازية التي أنقذت نصه من الوقوع في فخ المباشرة والتقريرية، لتمكنه من بناء سرد سلس، كما لجأ إلى الترميز في مواضع كثيرة من النص السردي الذي يجمع بين الحوار المسرحي الذكي، واللغة الأدبية الفصيحة التي طرّزها بكثير من المفردات المألوفة في المحكية الشامية التي أصبحت جزءاً حيوياً من نسيج النص وأمدّته بمحمولات فكرية وثقافية واجتماعية تُدين الحرب، وتعرّي العقول المريضة التي أشعلت أوراها تحت مظلة عالم يعيش انهياراته الأخيرة.خليل الرز في الحي الروسي، وغيرها من رواياته يزجر الثقافة التقليدية كما «يهجو» الرواية التقليدية، إنّه يشد الخطى إلى زمن جميل، تعاشر فيه رواياته الجديدة المفتونة بالمطلق، ومهما يكن الاجتهاد الذي ينجزه خليل، فإنّ رواياته تضيف اقتراحاً جديداً إلى صنف الروايات العربية، وهو اقتراح مثابر ودؤوب وله فلسفته وتصوراته، إنّه يجدد دائماً، هكذا نراه في كتاباته.
مشاركة :