أوروبا تواجه أزمة وجودية

  • 6/6/2015
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

أصبحت أوروبا في الآونة الأخيرة، تواجه تحدّيات عميقة: أوكرانيا في الشرق، ليبيا في الجنوب، المتاعب الاقتصادية والمالية المؤلمة، التفكك الاجتماعي، التوترات العِرقية وتصاعد مد الشعبوية السياسية. والآن، تواجه مشكلة وجودية محتدمة أخرى، على جبهتها الغربية، هذه المرّة. هل ستظل المملكة المتحدة موحَّدة، وهل ستبقى في الاتحاد الأوروبي؟ فجأة ومن دون سابق إنذار، بات احتمال خروج بريطانيا المُفزع أقرب إلى الواقع، صحيح أن كل من في القارة، كانوا يعلمون بأنّ ذلك احتمال ممكن، ولكنهم كانوا يأملون في أن يتضاءل بطريقة ما. يعتمد احتمال اتخاذ بريطانيا قراراً بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، على ديفيد كاميرون إلى حد كبير، ولكنه لا يعتمد عليه حصرياً. والسؤال الذي يتردد في العديد من العواصم الأوروبية في الآونة الأخيرة، هو: هل سيكون ديفيد كاميرون، الذي فاز بولاية ثانية بعد أن ضمن أغلبية غير متوقعة في البرلمان، في وضع أفضل لإدارة الحملة المؤدية إلى الاستفتاء حول بقاء أو خروج بريطانيا، الذي وعد بإجرائه قبل نهاية عام 2017، وهل سيحقق النتيجة التي ما فتئ يقول إنه يفضلها،وهي بقاء المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي؟ يجب أن يكون الجواب المأمول، بالإيجاب. ولكن ذلك لا يعني أن زعماء أوروبا سيكونون أكثر استعداداً لمنح كاميرون ذلك النوع من إصلاحات الاتحاد الأوروبي التي يبدو أنه يهدف إليها. فلا أحد في برلين، أو باريس أو أي مكان آخر يريد أن يشرع في تغيير معاهدات الاتحاد الأوروبي، تلك العملية المؤلمة، لأن ذلك يعتبر بحق، لعبة شديدة الخطورة على الصرح الأوروبي برمّته. (وما على المرء إلاّ أن يتذكر التشوهات التي رافقت الاستفتاءات على دستور الاتحاد الأوروبي). كما يوجد فعليّاً قدر كبير من الانزعاج من الطريقة التي أثبت فيها رئيس الوزراء البريطاني، أنه على استعداد لابتزاز بقية أوروبا في سبيل مكاسب سياسية قصيرة المدى في بلاده. ولذا، يجب ألاّ نتوقع الكثير من السخاء في القارة إزاء إعادة التفاوض على علاقة المملكة المتحدة بالاتحاد الأوروبي. ومع ذلك، فإن كاميرون يتمتع بميزة نادرة ولا يمكن إنكارها: فهو إذ نجح في ضمان ولاية ثانية، يبرز استثناء في مشهد سياسي أوروبي، اتسم برَكل كثير من الزعماء، من قِبل الناخبين منذ بدء أزمة 2008. من فرنسا (هزيمة سركوزي عام 2012)، إلى إيطاليا (أربع حكومات في تعاقب سريع منذ 2008)، مروراً باليونان، البرتغال، فنلندا، إيرلندا، وسلوفاكيا- وغيرها كثير- هنالك قائمة طويلة من الحكومات التي أطيحت عندما توجه الناخبون إلى صناديق الاقتراع في زمن التقشف. أمّا كاميرون فقد أصبح في عداد حفنة من الناجين السياسيّين من الأزمة المالية: وهو على نحو ما، يقف شامخاً هناك إلى جانب انجيلا ميركل. والحالة الثانية التي يمكن الإشارة إليها هي بولندا، التي صمد الحزب الحاكم فيها أمام التغيير (وإنْ تغير رئيس الوزراء نفسُه) منذ 2007، وتستطيع أن تدعي أنها نجاح اقتصادي كبير. فهل يضفي هذا النجاح الانتخابي إذاً، مزيداً من السلطة على كاميرون في أوروبا؟ يعتمد الكثير في ذلك على كيفية تعامله مع شركاء بريطانيا الأوروبيين. ولكنه لم يُبد حتى الآن، أكثر من الإهمال بكثير. وقد ألحق توسّله إلى ناخبي حزب الاستقلال البريطاني في موضوع الهجرة، ومهاجمته حرية انتقال المواطنين وهي إحدى دعائم الاتحاد الأوروبي ضرراً بمصداقيته على نحو سيكون من العسير عليه الشفاء منه. وفي ما يخص الشؤون الخارجية والاستراتيجية الأوروبية، يُعتبر كاميرون قد خرج من اللعبة برمتها، بصرف النظر عمّا قد ينطوي عليه هذا الرأي من إجحاف. وكما هي الحال دائماً، سيكون للتصورات من الاعتبار، بقدْر ما للواقع. وقد خرجت بريطانيا لتوها من أشدّ الحملات الانتخابية العامة تركيزاً على الشؤون الداخلية. وحلفاؤها حائرون في تصوّر الكيفية التي سيتمكن بها هذا البلد من إعادة اكتشاف مزايا كونه جزءاً من مشروع أوروبي أكبر، واستعادة دوره ضمن ذلك النادي. ويتمثل الاحتمال الخطر الآن، في أن تستغرق المملكة المتحدة تماماً- بعد نتيجة الانتخابات هذه- في جدال محلي محموم حول علاقتها مع أوروبا- في الوقت الذي تكافح فيه لتجديد إجراءاتها الداخلية، تحت ثقل المسألة الاسكتلندية التي باتت تضغط أكثر من ذي قبل. وماذا عن العامل الذي يشكله حزب الاستقلال البريطاني، وكيف سيؤثر في كاميرون؟ وهل يستطيع كاميرون أن يهدئ هواجس المتشككين من أعضاء حزبه في البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي؟ تلك هي الأسئلة التي ينشد زعماء أوروبا جميعاً أجوبة عنها. لأن أوروبا لو فقدت بريطانيا، فسوف تجازف بتدمير نفسها. وإذا خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فسوف تضطر إلى الإبحار في مياه مجهولة غير محددة المسالك، وتجازف بأن تتحول إلى لاعب غير ذي شأن في عالم معولم. وعلى الأوروبيين، أينما كانوا، أن يحاذروا من أن يكونوا راغبين في ترْك هذا الجزء من العالم يتحول إلى كيان أشدّ تجزئة وضعفاً مما هو عليه بالفعل. إن الرهان كبير، والخسارة إن حدثت، باهظة. ولا ريب في أن العبء يقع الآن على عاتق ساسة بريطانيا، ليضمنوا أن يتفتح النقاش المحلي بطريقة واعية، واضحة وبناءة، طريقة لا تستغل مخاوف لا أساس لها، وشعارات متطرفة رخيصة.

مشاركة :