القصيدة أفق مفتوح.. شِعْرّية السينما

  • 2/27/2020
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

ما هو الشعر؟ الشعر، في جوهره، لا يتصل بالقصيدة وحدها، فالطاقة الشعرية كامنة في السرد، في النصوص النثرية، في الصورة السينمائية، في اللوحة التشكيلية، في المقطوعة الموسيقية، في النحت، في الطبيعة، في الحياة اليومية. ولا يمكن لجهة ما أن تحتكر ما لا يمكن تحديده وتأطيره، وما لا يمكن أسره، والذي يفلت من أي قياس ومعيار. إذا كانت القصيدة هوية شكلية، أي مجرّد شكل محدّد ينهض على عناصر الشعر، فإن تحديد جوهر الشعر، ماهيته وشكله، هو أمر صعب، إن لم يكن مستحيلاً. الشعر ليس له وجود ثابت ومستقل وقائم بذاته، ليس مجموعة من القوانين والقواعد والمقاييس والقيم والأشكال والأنظمة، وهو غير محدّد وغير مرتبط بشكل ما، إنه يوجد في كل مكان، أشبه بأفق مفتوح. لقد اتسع مفهوم الشعر وأصبح كل شيء مادةً للشعر. فالشعر يتجلى في كل مظهر، في كل شكل، في التعبير كما في الرؤية، والروح الشعرية توجد في كل الأشكال الفنية. إنه رؤية شاملة للحياة والوجود، موقف من العالم والوضع البشري، تعبير عن التجربة الحياتية والروحية، طريقة خاصة في المعرفة وفي الاتصال بالواقع. إن الشعر يمدّد تخومه وراء حدود الاتصال اللفظي ليشمل أشكالا وطرائق من التعبير الفني. ثمة علاقة عضوية بين الشعر والأشكال الفنية، بل ومختلف أوجه الحياة والفعاليات الإنسانية. الروح الشعرية تبعث الحياة في أشكال الفن كلها. السينما الشعرية السينما تملك سلطة داخلية تتركّز داخل الصورة وتعبر إلى الجمهور في شكل مشاعر، محدثةً توتراً في استجابة مباشرة إلى المنطق السردي للمؤلف. وهو المنهج الذي بواسطته يرغم الفنان الجمهور على أن يبني من الأجزاء المنفصلة وحدة كاملة. في حديثه عن مفهوم «السينما الشعرية»، يشير تاركوفسكي إلى أن هذا التعبير أصبح مألوفاً وشائعاً، وهو يعني السينما التي تبتعد بجسارة، في صورها، عما هو واقعي ومادي متماسك، كما يتجلى في الحياة الواقعية، وفي الوقت نفسه تؤكد السينما وحدتها التركيبية الخاصة في رصدها للحياة على نحو خالص وصاف ودقيق. السينما الشعرية تكمن بعيداً جداً عن النظريات أو التعريفات، ووراء نطاق المعاني أو التأويلات. لا قوانين تحكمها ولا أعراف أو تقاليد. إن جذر الشعرية في السينما ينشأ من الاستجابة العاطفية المباشرة التي تستمدها السينما، والأفكار التجريدية التي بإمكان السينما ربطها، وابتكار مجازات فيها. عندما نأتي إلى مصطلح «السينما الشعرية» من أجل تعريفه وتحديده، نجده بدوره مصطلحاً مراوغاً، متملّصاً، يصعب الإمساك به، والذي يتشّعب إلى مناطق واسعة. مفاهيم أو مصطلحات، مثل «شعرية الفيلم» أو «السينما الشعرية» أو «الفيلم القصيدة»، استخدمت في مناسبات عديدة طوال تاريخ السينما من قِبل مخرجين ومنظرين وباحثين مختلفين. كل واحد منهم طبّق فهمه الخاص لما قد تكونه السينما الشعرية. في الواقع، ليس هناك تعريف محدد لخصائص السينما الشعرية. ثمة طرائق مختلفة للاقتراب من الموضوع وفهمه، ولا يمكن الجزم بصحة مفهوم وخطأ آخر، أو رفض أي منظور محتمل. الشعر اللغوي فعل انفرادي، متوحّد، بينما الشعر في الفيلم فعل جماعي، يشارك فيه المصور ومصمم المناظر والمونتير وآخرون. إنهم يساهمون في العنصر التقني لشعرية الصورة. بخلاف الشاعر، المخرج السينمائي يتعاون مع عدد من الفنيين والممثلين في تحقيق الفيلم. وعلى المخرج أن يتعامل بوعي وفهم مع ذوات متنوعة وحساسيات مختلفة ورؤى متعددة والتي ينبغي أن تتوافق مع رؤية وأسلوب المخرج من أجل إبداع عمله بصورة قوية وسلسة. كيف يمكن للفيلم أن يكون شعرياً؟ إنه الفيلم الذي يتميّز بالأسلوب السردي اللاخطي في المونتاج، وتدفق تيار اللاوعي من الصور والكلمات المنطوقة. وبعض المخرجين يدمجون الكثير من الجمال، السرد البصري، والموسيقى في أفلامهم بينما يعالجون بعض القصص العميقة جداً، بحيث يتمكنون من رفع أعمالهم من «الفيلم» إلى «التجربة». خلاصة هذا النوع من صنع الأفلام أنه ينتهك قوانين السرد الخطي، ويعبّر عن أفكار ومشاعر من خلال البصري والسمعي.. مستخدماً الحواس للاتصال وترجمة الثيمات. في هذه الحالة بإمكان الفيلم أن يكون وسطاً مؤثراً وفعالاً بقوة للتعبير عن الشعر. رغبة متّقدة السينما، كاكتشاف فني، انبثقت بوصفها صورة عالمية جديدة وحقيقية. لقد ظهرت ككشف، كرغبة متّقدة تقتحم قوانين العالم. يقول بازوليني (في مقابلة له مع جيمس بلو، خريف 1965): «جوهرياً، التمييز أو الاختلاف ينبغي أن يكون بين سينما النثر وسينما الشعر. من جهة أخرى، سينما الشعر ليست بالضرورة شعرية. في أحوال كثيرة، يحدث أن يتبنى مخرج ما معتقدات وقواعد ومعايير سينما الشعر ومع ذلك يحقق فيلماً مدّعياً وسيئاً. ويأتي مخرج آخر ويتبنى معتقدات وقواعد ومعايير سينما النثر – أي أن يروي قصة – ومع ذلك يبدع شعراً». بدايات السينما الشعرية نشأ مفهوم «السينما الشعرية» لأول مرة في فرنسا، بين المجموعة الطليعية، خلال السنوات العشرين الأولى من بدايات السينما. كانت هناك اهتمامات جمالية، وتساؤلات حول خاصية الإبداع والمسؤولية الثقافية، إضافة إلى الرغبة في تحدّي تقاليد سائدة معينة. العديد من المشاركين في الحركة الطليعية أرادوا تطهير الفيلم باعتباره فناً حقيقياً وشرعياً وليس مجرد وسطٍ في الثقافة الجماهيرية. كانوا يرفضون المحاولات الناقصة للسينما لمحاكاة الأشكال الأدائية والأدبية مثل المسرح والرواية. في العام 1911، قام الناقد الفرنسي ريكيوتو كانودو بتوضيح الفارق بين التقاليد المسرحية والشعرية في بدايات السينما، هذه التقاليد التي تُحدث نتائج مختلفة وتحمل إمكانيات مختلفة للفن الجديد. كتب يقول: «التجليات الجديدة للفن ينبغي أن تكون بدقة أكثر رسماً أو نحتاً في الزمن، كما في الموسيقى والشعر، والتي تحقّق نفسها بتحويل الأثير إلى إيقاع طوال مدّة التنفيذ». كان هناك تفضيل للإيقاع على القصة والأداء، والذي يشكّل جوهر السينما. في العام 1919 رأى السينمائي لوي ديلوك في السينما إمكانية لأسلبة الواقع، وجعل المألوف غريباً. وعوضاً عن الواقع العادي، المبتذل، المعروض في الصورة الفوتوغرافية، تقترب اللغة السينمائية من الشعر لتكشف الناس والطبيعة في شكل جديد تماماً. «فن سابع» الشاعر السوريالي لوي أراغون كتب في 1918 يقول إن السينما تنبثق من الجمالية الشعرية أكثر من الجمالية المسرحية. في العام 1923، وصف الناقد ريكيوتو كانودو السينما بأنها «فن سابع» لأنها مركّبة من ثلاثة فنون إيقاعية (الموسيقى، الرقص، الشعر) وثلاثة فنون تشكيلية (الرسم، النحت، العمارة)، مستبعداً الأدب والمسرح، كما لو أراد أن ينقذ السينما من سيطرة السرد. بأخذ المزيج من الخاصيات الإيقاعية والتشكيلية كتحدٍ، قام عدد من الفنانين التشكيليين – فرناند ليجيه، مان راي، مارسيل دوشامب، هانز ريختر، فايكنج إيجلنغ، وآخرين – بالانتقال إلى السينما على أمل إيجاد حلول حركية لمعضلات تصويرية لا يستطيع الكانفاس الساكن أن يحل لغزه. آخرون أغوتهم، بشكل خاص، المظاهر الإيقاعية للسينما. عدد من هؤلاء الفنانين شكّلوا الحركة الطليعية. في إحدى مقالاته، قال الناقد الفرنسي جان إبشتاين أن الصورة السينمائية يمكن أن توفر لنا «الوعي الحاد» الذي هو امتياز الشعر. علاوة على هذا، هو استنتج أن السينما «وسط الشعر الأكثر قوة وفعالية». أفكار مماثلة طرحها الناقد الهنغاري بيلا بالاش، في مقالة كتبها في 1924 فيها نسب الجاذبية الغنائية إلى اللقطة القريبة، وقال إن حركة التعابير الوجهية هي «شكل من الغنائية التي هي، على نحو لا يُضاهى، أغنى وأكثر امتلاءً بالفوارق الدقيقة من الأعمال الأدبية أياً كان نوعها». وأضاف: «حين تُظهر اللقطة القريبة كل درجة من الإحساس بتفاصيل دقيقة، فإنها تعبّر عن حساسية المخرج. اللقطة القريبة هي شعر السينما».

مشاركة :