التكريم الذي حظي به الرئيس المصري الراحل حسني مبارك بعد وفاته، أكد عراقة وأصالة الدولة المصرية، واحترامها لرموزها، وقدرتها على تحويل ذلك إلى تطبيق بيداغوجي يضع الأجيال الصاعدة في سياق تاريخهم وانتمائهم وقيمهم الأخلاقية التي تعود في جانب كبير منها إلى آلاف السنين، عندما كانت مصر أحد أهم مراكز بدايات الحضارة الإنسانية. ودّعتْ مصر أمس الرئيس مبارك في جنازة عسكرية، تم فيها تقديم أوسمته التي أْعيدت إليه بعفو رئاسي في قضية القصور الرئاسية، وعُومل الراحل كأحد أبرز قيادات القوات المسلحة المصرية، وأُعلن الحداد لثلاثة أيام في كامل أرجاء البلاد، ونَعَتْهُ الرئاسة ومجلس الوزراء والبرلمان والقيادة العامة للقوات المسلحة ومختلف مؤسسات الدولة، وخصصت وسائل الإعلام المصرية مساحات واسعة لإبداء التقدير لمبارك، متجاوزة كل الاعتبارات التي يمكن أن تحدث أي سجال في مناسبة كهذه، ومنها أحداث عام 2011 التي أطاحت بالنظام آنذاك، والتي أعاد المصريون وضعها في سياق عاصفة الربيع العربي الذي كان يستهدف مفهوم الدولة ومؤسساتها ووطنيتها واستقلالية قرارها. في يونيو 1967 تعرضت مصر إلى هزيمة عسكرية مدوية، ردها البعض لسياسات الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، لكن الدولة المصرية لم تتخلَّ عن رمزية الرجل ولا عن رمزية موقعه على رأسها، ودفعت بكل قواها من أجل أن يستمر في مركز القيادة، فتم رفض قراره بالاستقالة، وتجديد الثقة فيه، ليقود مسار إخراج البلاد من نكستها، وليعيد بناء القوات المسلحة بما حقق لها نصر أكتوبر 1973. وعندما شهدت مصر انتفاضة 25 يناير 2011، وأدرك الرئيس مبارك أن المستهدف هو الدولة، تخلى عن الحكم مسلما إياه إلى قيادة الجيش ورفض مغادرة بلاده، وتقدم إلى القضاء بكل احترام، وتفاعل مع القضاة بثقة في عدالتهم، بينما كانت جماعة الإخوان تؤكد أنه لن يخرج من السجن إلا ميتا. عندما وصل الإخوان إلى الحكم كان أول أهدافهم ضرب الرموز الوطنية، فمشروعهم لا يعترف باستمرارية الدولة، وإنما بتدميرها لإعادة بنائها وفق عقيدتهم التي لا ترى في بلادهم إلا امتدادا لمشروع أكبر. بعد أدائه القسم كرئيس للجمهورية، اتجه الراحل محمد مرسي وعدد من قيادات الإخوان إلى ضريح عبدالناصر في حدائق القبة لوضع باقة زهور عليه، في محاولة لإبداء التقرب من القوات المسلحة، وعندما خرج مرسي ومرافقوه، تخلف عنهم المرشد العام محمد بديع لينفرد بالضريح، متوجها له بالقول “ها قد عدنا يا عبدالناصر” من باب التشفي وكأنه الجنرال الفرنسي هنري جورو وهو يقول “ها قد عدنا يا صلاح الدين” أمام ضريحه في دمشق أوائل العشرينات من القرن الماضي، لكن أحد العسكريين المكلفين بحراسة ضريح عبدالناصر التقط تلك الكلمات ونقلها إلى قيادته. في السادس من أكتوبر 2012، وخلال الاحتفال السنوي بذكرى العبور، أثار مرسي غضب الدولة والشعب المصريين، عندما أحضر إلى جانبه قيادات من الجماعة الإرهابية المتورطة في اغتيال الرئيس محمد أنور السادات من بينها طارق الزمر، وكان ذلك كافيا لفهم مسعى الإخوان لاختراق الدولة وتبخيس رموزها. في 30 يونيو 2013 ثار الشعب المصري ضد حكم الإخوان بعد أن أدرك أن دولته في مهبّ الريح، وأن دولة المرشد هي التي باتت تتشكل لتستمر إلى ما لا نهاية، مستندة على تبعيتها لمشروع دولي يعتمد على الفوضى لتكريس وجوده، واضعا في مرمى استهدافه الجيش والأمن والقضاء والقوتين الناعمتين؛ الإعلام والثقافة. عندما توفي مبارك الثلاثاء الماضي، أعلنت دول عدة عن حزنها العميق، وتقدمت بتعازيها لمصر والمصريين. ومجرد النظر إلى قائمة تلك الدول يعطينا مجالا لفهم ما يدور حولنا، فهناك من يعترف بمعنى الدولة ويعرف كيف يتعامل معها ومع قيمة رموزها، وهناك من يستهين برمزية الدولة ورجالها وقيمها وثوابتها. حادثة وفاة مبارك، أكدت على عراقة وأصالة مصر والمصريين وعلى قدرة الدولة المصرية على أن تكون بحجم التحديات، وأن تتصرف وفق القيم الأخلاقية بعيدا عن ثقافة الفوضى والتشفي والعدوانية، لتحمي بذلك ثوابتها وتحيل العالم لقراءة جانب من وجدانها الأصيل العميق وتراثها الثري العريق.
مشاركة :